لم تكن يوماً فارساً يا "باسل" وما هكذا تكون الفروسية: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (6)
(إبتداءً من هذا الجزء السادس، يستعيد "خالد الحموي" إسمه الحقيقي، الذي أجبرته الظروف على أخفائه، وهو الفنان التشكيلي "خالد الخاني"، علماً أن "الحمويّين" الذين قرأوا شهادته على "الشفّاف" تعرّفوا إلى الكاتب بسهولة لأن الجميع في المدينة الشهيدة يعرف قصة والده).
*
شهادتي هذه كٌتبت الاجزاء الاولى منها تحت القلق والخوف من كل شيء، وارسالها لكم لفضح جرائم النظام الفاسد.
والله كانت الحروف تتخلى عني ولغتي لا تسعفني واحيانا ابحث عن حرف أو جملة واحاول كتابتها فتفر هاربة خوفا من هذا النظام المستبد. لا تعرفون كم جملة حذفت خوفا على أشخاص، وكم مرة ترددت، وكم مرة تلعثمت، وكم مرة بكيت حتى السقوط. وأقسم ان بكائي لا يتوقف ابداً وانا اكتب. وايضاً، الذي كتب اخرجته قسراً من ذاكرتي وهو يحاول الهروب الى زوايا دماغي.
على باب المستشفى الوطني، هناك، بقيت جثة أبي مرمية بين الجثث. وروت لي الممرضة التي رافقته عندما كان مديرا للمستشفى (بعد استجابة النظام لبيان مثقفي حماه، وعينوه ايضا نقيباً للاطباء، وهو لم يكن بعثياً، وهذا كنوع من البدء بتحقيق المطالب والخضوع الى الحوار واختياره هو وشخصيات من "المجتمع المدني"، وهذه هي المكيدة التي يستخدمها النظام اليوم، ولنحذر ولنقرأه جيدا):
الجرحى ينقلون الى المستشفى بتسارع لا ينخفض. وهذه الحادثة حصلت عند وصول جريح الى الاسعاف، والذين جلبوه كانوا يعتقدون ما نعتقد جميعاً. ادخل وهو يصرخ من آلامه حتى سمع كل من بالمستشفى صوته الذي لم يكن وحيدا ولكنه طغى على جميع الاصوات. وصوته هذا كان اشارة للجنود الذين رابطو بالمستشفى للإجهاز على الجرحى لتأكيد ابادتنا. وألم الجرحى يتناسب طردا ليس مع الاستجابة لتخفيف الامهم، بل مع شدة العذاب الذي ينتظرهم. التي روت: ان الجنود بموجة من الجنون، وممرضة تبنّت القتل معهم، شقوا صدره وهو يصرخ ويتلوى واخرجوا قلبه، ودماؤه غطت وجوههم وبزاتهم العسكرية حتى اسكتوه كما اعتقدوا. الى الان والله انا صوته والمه وجسده حتى نكرمه كما يليق به كبشر. قتلوه وهم يحتفلون وهم ينتصرون على الانسانية، وهذه حربهم الدائمة. واقسمت الراوية ان الممرضة المتحدة معهم أخرجت كبده وأخذت تلوكه وتبصقه وهي تعتقد ان الله تغيّب عن المكان. والراوية لهذه القصة بقيت لسنوات وهي صامتة، وبقيت هناك بنفس المكان ونفس الحضور، والمشهد يتكرر عبر ذاكرتها، ولم تتغيب عن هذا المشهد الى الآن. واخبرتنا ايضا انهم لم يسألوه عن اسمه، وهم لا يتبعون الاسماء ولا يعرفون لغة الاطفال ولا لغة النساء، او بالاحرى لا يعرفون لغتنا ابداً، بل يعرفون لغة القتل فقط.
في المستشفى، شُوِّهَت الاجساد، وغيروا من ملامحها، وكانوا يرسمون بالدماء ويكتبون عباراتهم على الجدران، كـ"لااله الا الوطن ولا رسول الا البعث"! شوّهوا الأجساد وقطعوا الرؤوس ليعبروا عن خوفهم من عقولنا (او ربما حتى يبقى الناس في دائرة الشك ولا يستطيعون تأكيد موت مفقوديهم او وجودهم مع المعتقلين في سجون العصابة، وهذه صورة عن ايلامنا النفسي الذي عملوا على ان يكون مزمنا حتى الان, فللآن مازال الشك والرغبة ان يعود من ذهب الى هناك) وكانهم يجردون الانسان على لوحة طغى عليها اللون الاحمر ويضعون من اسود قلوبهم ليوازنوا فنونهم اللا بشرية. كان هذا رسما ونحتا وسينما ومسرح وربما شعرا وموسيقى، وتركوا لي الرواية. وتفوقوا على جميع من عمل فنا معاصراً وقتها، ولكن نسوا انهم يقتلون الانسان. فهذه فنون القتل عند التتار! ايضا قاموا بجميع تجاربهم العلمية كادخال الماء اوالكحول الى الدم واقبوا ماذا ينتج عن ذلك. يا لهم من علماء سبقوا جميع العصور! ثقبوا الاذان، وقطعوا الاوردة والاعضاء التناسلية. قطعوا الاصابع والآذان، وقلعوا العيون وادخلوا بنادقهم من جميع الفتحات، واستخدموا "السيانيد" ونتائجه علينا (سأروي عن "السيانيد" لاحقا). كانوا يريدون من الله ان يخلقنا بلاعيون او آذان او حتى قلب، لا بل كانوا يريدون الا يخلقنا ابداً.
واذا كان الجريح من النساء، كانوا اكثر سعادة لانهم يضيفون فنوناً أخرى! يغتصبون إمرأة وهي تموت او وهي تنزف، او يريحونها وبعدها تغتصب، واذا كانت تملك حليا تنتزع منها بابشع الطرق كقص اليدين وشرم الاذنين والى اكثر من ذلك.
في تلك المنطقة من العالم، وداخل مدينتي، كانوا قد عمموا على المشافي، كما يحصل اليوم، الا تستقبل الا الجنود ولم يستجيب احد لطلبهم. فدمّروا جميع المشافي الخاصة ولم تسلم من همجيتهم أي واحدة منها، وسرقوا ودمروا جميع الصيدليات..
بعد إيلامكن باخباري لكم ما حصل هناك في المستشفى الذي لم يتبقَّ منه الا اسمه الذي لا يليق بهكذا مكان او انه اجبر على ذلك بعد دخول التتار، سأروي شهادتي عن "حميدو".
وربما جميع الناجين من حي "البارودية" يعرفون "حميدو"، هذا الشاب "المجذوب" الذي فاق القتلة عقلاً وانسانية. و"حميدو" كان هناك عندما بدأت مجرزة حماه، ولن يتردد ابدا بإعلان نفسه كمدافع عن مدينته المستباحة. فحميدو يعرفه كل اهل الحي لانه كان كالساعة: اذا اشرقت الشمس اطلق سرب حمامه نحو السماء ويتعالى صوت "حميدو" حتى يوقظ الجميع. واذا غابت الشمس، كان يودعها بصوته العالي وهو ينادي سربه. ولم يتوقف عن اعلانه بين بيوت حي "البارودية"، وهو جزء من ذاك العالم، فحميدو موجود في "البارودية" حتى لو تغيب الجميع. في بداية الهجوم الليلي على مدينتنا لا اعرف اين كان هو، ولكن في الصباح والرصاص يطلق من كل الجهات ونحن في بيتنا صعد "حميدو" الى سطح منزله واطلق صوته وسرب حمامه الى السماء. حينها اختلط صوته مع صوت الرصاص، ولم يكن صوتهم المعتاد. كان اشبه بصوتنا جميعا. طيور "حميدو" تلف السماء فوق منزله وتحاول الهبوط خوفا من الرصاص، وتاه بعضها بعيداً، ولكن حميدو لم يته ابداً. فكان يتحدى الرصاص وأمّه تناديه ولا يسمع الا صوته. ولا ندري كيف كان يشعر "حميدو" واعتقد انه هو لا يدري بشعوره، ولكنه وقف مع مدينته المستباحة وربما اطلق سربه علهم يفهمون رسالته. يا له من انسان تعاظم بيننا وحرر ذاته وواجه القتلة وبقيت انا كل هذا الوقت حتى أرقى لما كان "حميدو" واخبركم عنه وكيف كان نضاله الذي لا يشبه الا نضاله! رأى الجنود حمامات "حميدو" فبدأوا يقنصونها واحدة بعد الاخرى و"حميدو" يصرخ حتى السماء ويشير لنا ان "التتار" لا يترددون في أي شيء. استمر بالصراخ ولم يستسلم، ولم يسمح لطيوره بالهبوط على سطح منزله. بعض الطيور حطت على بعض المنازل وقتل الباقون، لم يصمت "حميدو" وصعد الى المكان الذي تحط به الطيور ويبحث ويصرح ويواجه، ولم ينحنِ ولم يختبىء كما فعلنا جميعا، ولم يستسلم لصوت الرصاص. فهذا الرصاص خارج مدارات مسامعه حتى قنص "حميدو" من الجنود الذي لايقرأون المشاعر ولا يفهمون ماذا تعني الانسانية ولا يحبذونها لانها لمخلوقات مختلفة.
هذا ليس حي "البارودية" في حماه: الصورة لمدينة "غورنيكا" في "بلاد الباسك" بإسبانيا بعد أن دمّرتها طائرات هتلر وموسوليني في 26 أبريل 1937. وقد خلّدها بابلو بيكاسو بلوحته المرفقة التي ترمز إلى كل المدن الشهيدة!
صمت "حميدو" على سطح بيته، ولكنه لم يصمت بذاكرتي. وكأنه اليوم يطلق الى روحي من جديد ما كان يشعر به في ذلك الفضاء. واللهِ، جميعنا اليوم نشبه "حميدو" الذي اطلق اسلحته الانسانية ليوقف القتل وتنبأ قبل الجميع انهم سيبدون الطيور، فذهب مع طيوره الى ما اراد وتركني احمل ما أراده لكم جميعاً. فأين الآن أنت يا "حميدو" لتعلنها حرية على طريقتك الخالدة في ذاكرة من تبقى من اهل "البارودية"؟
وفي وقتها علم جميع السكان ان "حميدو" يطير مع حماماته نحو السماء، وكان من اوائل الشهداء في حيّنا...
ومن الاشياء التي حصلت هناك، كان بين البيوت اسطبلات للخيول. فجميع العوائل كان لديها خيولها التي كانت عرضا وشرفاً، ولم تصنف يوما عندنا مع الحيوانات، فكانت تحمل بعض اسمائنا. وفي هذا الوصف هناك ما لا ينتهي عن هذه العلاقة معها.
بعد هروبنا الكبير من الحي، بقي من بقي، ورحل الاكثرية. والذين بقوا روا لنا ما حصل بخيولنا هناك. بعض الرجال قبل ان يغادر الحي اطلق خيوله، كما فعل "حميدو"، وربما حميدو كان يريد من طيوره الابتعاد عن المكان او كان يحارب الاسلحة بطيوره الجميلة. أُطلقَت الكثير من الخيول الأصيلة، وربما هذه هي المرة الوحيدة منذ مئات السنين نتصرف بهذا الشكل الذي لا يمثل دواخلنا ومشاعرنا تجاهها.
بقيت خيول كثيرة في الاسطبلات، وفتحت لها مخازن الشعير ربما لتسطيع الاستمرار بالحياة. وكان البعض يعتقد انهم سيعودون ليروها ثانية، ولم يعرفوا ان "التتار" لا يتركون شيئا وراءهم، فلم يتركوا ارثنا الحضاري، ولم يتركوا لنا عادات اجدادنا وكانوا يعرفون رمزية الخيول لدينا...
لم يقتلوها فهم يعلمون بقيمتها الحضارية، ويعلمون ايضا ان فقدانها يؤلمنا الى النهاية، فهذا الذي يسعون اليه. لم يروِ جميع الناجين من اهل المدينة انهم رأوا بين جثثنا خيولاً. فقد حملها "التتار" الى مكان لم تكن به يوماً، واقسم أننا بعد انتهاء المجزرة وعودة الباقين الى المدينة، بدأ اهل مدينتي يبحثون عن خيولهم كما يبحثون عن ابنائهم! فاذا ذُكِر لأحد انه شوهد خيل جميلة في أي محافظة، يذهبون ليتحققوا منها علّها تكون خيولنا الجميلة. وعلمنا اننا لن نراها يوما، ولم نجد اجابة عن أي ذهبت، حتى خرج علينا "الفارس الذهبي"! وقتها علم أهل "حماه" أين ذهبت خيولنا!
لم يكن أبوه يوما فارسنا، ولم يكن جده كذلك. لقد تعلم الفروسية بخيولنا. فهي تُعلِّم من يمتطيها الأخلاق ايضاً، ولكن ليس الجميع يفهم لغتها!
والله، واقسم، انها لا تليق إلا بنا، ولم تكن يوما فارسا يا "باسل"، وما هكذا تكون الفروسية!
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/