عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة "حماه" (4): دم يلطخ ثياب الصبايا ويتقاطر على الأرض
في هذا الجزء سأروي بعض الصور القاسية التي تعرض لها أهل مدينتي، وهذه القساوة التي تخضع فقط لمنطق ”التتار“ الذين استباحو مدينتي "حماه" في العام 1982.
أعود بذاكرتي إلى مسجد عمر ابن الخطاب، حيث كنا قد تجمعنا هناك في الموضأ. فُتِح علينا الباب، وأُدخلت خمس أو ست فتيات، ويا له من منظر، أقل ما يقال فيه إنه مرعب.
فتيات يدخلن الموضأ والنصف السفلي من ملابسهن مليء بالدماء. نحن الأطفال لم نعر الأمر اهتماماً، لأن معنى هذه الاشارة أكبر من إدراكنا، ولكن النساء تحوّلن إلى حالة من الهستيريا لمشاهدتهن هذه الصورة،. بدأ البعض منهن يسقط على الأرض، فيما نحن لم نفهم لماذا تصاعدت الأصوات بـ"سورة ياسين" وبالتكبيرات. ارتفع البكاء فانتقل إلينا إحساس الخطر نحن الاطفال، فاتّحدنا مع الجميع ببكاءٍ لم اشهد له شبيه بحياتي كلها لان هذا لم يحصل الا هناك، وأتمنى أن لا يحصل ثانية!
أُدخلت الفتيات الى جزء خلفي صغير من الموضأ بعدما ملأت صورة دمائهن قلوبنا. حاولت النساء ايقاف النزيف من الفتيات، كان الدم يتقاطر على الأرض ليلطّخ المكان،. بعد ذلك بدأت بعض النساء بخلع ثيابهن الداخلية واعطائها الى الفتيات! يا له من اضطراب في روحي الى الآن، هذا المشهد من تقاسم الألم كسر الطمأنينة الى الأبد..
نحن الاطفال كنا بحالة ذهول كاملة، لم نستطع فهم ما يجري أمامنا، ماذا تفعل النساء، ولماذا يخلعن ثيابهن الداخلية ليستروا العورات المستباحة. تكاتفت النساء حتى استطاعت ايقاف النزيف المريع. في البداية طلبت بعض النساء المساعدة من الجنود، ولكنهم رفضوا وضحكوا واستهزؤوا بهن... كذلك بدأوا بشتمهن بشكل لا يتوقف، كأن هؤلاء الجنود لم تلدهم أمهات بل نبتوا من الحجارة، ولم يروا الله ورأوا فقط التجبر الذي يمكنهم ممارسته. حاولت النساء احتضان الفتيات الجريحات للتخفيف من هلعهن.. كانت ساعات طويلة جداً تكاد لا تنتهي.. بعدها، وصلت ادمغتنا الى الرضا لتهدأ نفوسنا التعبة كنوع من غريزة البقاء، وبدأنا نحن الاطفال بالاقتراب من الفتيات الجريحات بنوع من المداعبة لتخفيف آلامهن، واتذكر كيف كانت وجوههن وكأنهن خرجن من حظيرة ذئاب مسعورة.
في تلك الجلسة روت الفتيات ما حصل معهن للنساء،. في البداية رفضت الفتيات الاستجابة لمطالب الذئاب فانهالوا عليهم أكثر مما تعتقدون.. ضرب وشتائم وهمجية واقتلاع ثياب وفض بكارة بطرق غير إنسانية. لم يكن الجنس دافع الجنود فقط،! كان الأمر وكأنهم مرضى بـ"ساديّة" لانهاية لها! لقد ادخلوا كل شيء الى روح الفتيات، وحشية لا تطاق، وحشية تسلطت على رقابنا سنين طويلة.
أحد الشبان، وكان طفلا حينها، روى لي منذ أسابيع كيف كانت جثث أخواله ملقاة على الأرض، حيث لم يستطيعوا عند المغادرة إلا المرور من فوق الجثث،. ودّعوا احبابهم القتلى بهذه الطريقة! يا له من موت ومن وداع. هذا الالم حملوه إلى اليوم، قال لي الشاب إنه خائف من بطشهم ولا يستطيع ان يقاوم خوفه. المجرمون اغتصبوا الطمأنينة من حياته الى الابد، وسألني بكل بساطة "هل سننتصر عليهم"؟ وضحكت، أنا الذي لم اضحك منذ شهور، واكدت انتصارنا، فابتسم متردداً ولكني اعلم انه سيكون هناك يحتفل بنصرنا القريب.
وروت إحداهن كيف أن جدتها الطاعنة بالسن وكانت لا تستطيع المشي، ارسلتهن للبحث عن خلاص من الدمار الذي كان يقصف المدينة، علهن ينجون من حمام الدم الاسود. بقيت الجدة هناك وحيدة مع كرسيها غير المدولب الذي تستند اليه، علَّ رأفة ما تنقذها.
كانو في "حي العصيدا". بعد قصف الحي بالمدفعية دخل القتلة اليه، حيث أعدموا مباشرةً اكواماً من الرجال، ومثّلوا بأجسادهم بطريقة بشعة، ولم يترددوا في قتل الاطفال واعتقال من استطاع البقاء حياً.
قررت الجدة (ام ابراهيم) اخراج الجميع من الحي، والجميع هنا هم فقط من الاطفال والنساء، تنقلت معهم بكرسيها (العكاز) تحت الرصاص وقذائف المدفعية وهدف القناصة، الى ان وصلوا صعوداً الى بداية "حي الحاضر،". تعبت ام ابراهيم ولم تعد تستطيع السير اكثر من ذلك، وبقيت هناك في بيت احدى عماتي وزوجها واطلقتهم الى المجهول كسرب من السنونو بين الوحوش. هذا الخيار لم تكن تملك ام ابراهيم غيره، فالجدة كانت تعي ان القتلة ليسوا بشراً، وعلى الجميع الهروب من حمام الدم الذي يهددهم كل ثانية. في تلك الجلسة، أخبرت الفتيات كيف أن أم ابراهيم صرخت بهن واطلقتهن الى خلاص كانت تأمله.
في الموضأ، قرئت الفاتحة من الجميع على روحها اعتقاداً منهم انها ستباد من الهمجية التي قررت مواجهتها،. ولكن ام ابراهيم كانت اقوى من المدافع، وحيث ان عمتي وزوجها قرروا الهروب من القتل الذي يتصاعد اكثر فاكثر ومرة اخرى، الجدة تطلقهم نحو الخلاص وتبقى في بيتهم وتعلن المواجهة.
بقيت ام ابراهيم في بيت عمتي والابواب مشرعة لمدة اسبوع، والجنود يدخلون المنزل يسرقون ويحطمون، وام ابراهيم تصرخ في وجوههم، يخافون منها وهي تغتال شجاعتهم الزائفة. لم تنحنِ أمام القتلة، بل دافعت عن المنزل بكل إباء، كنوع من رمزية المقاومة المحقة عن كامل المدينة المستباحة.
صمود "أم إبراهيم" أذلّهم واذلّ قادتهم، حتى بدأ يستجيبون لما تمليه عليهم، ليكتشفوا انها المنتصر هي وكرسيها غير المدولب، فقرروا اخراجها إلى الحي لتشهد تفجير منازله كاملة، ولتشاهد كم هم ليسوا بشراً! بقيت على كرسيها في وسط الشارع المدمى، ثلاثة ايام وهي في هذا الخلاء. لم تناور ولم تفاوض، اعلنت عن وجودها هناك كنخلة وسارية وراية وعلم، ولم تطلب المساعدة من احد ولكن كان من بين الجنود من تبنّى شموخها وتحول الى مجيب لكل ما تحتاجه.
"أم ابراهيم" أقسمت انها لم تَخَف منهم ولم ترهم، فكانوا اصغر من مدى بصرها، وتقول إن الله ارسل لها كل ما تحتاجه. بقيت لتخبرهم اننا سنعود، ونقتصّ، ونكرم شهداءنا، ونرفع لكل منهم "شاهدة"، ولن نتركهم بقبرهم الجماعي، ولم ولن تنتصروا كما تعتقدون.. مرّ الوقت ووصل بعض الباحثين عن الخلاص، فحملوها، وهي التي أبت ان تُحمَل. خرجت "أم ابراهيم" الى القرى مع التائهين.
يتبع
--
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/