عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماة (3)
خالد الحموي
بعد هروبنا الكبير من مذبحة حماه، والتي لا تشبه بنظري على الأقل الا مجازر صبرا وشاتيلا و دير ياسين. مشهد يحوي آلاف الصور الموجعة، واصوات من تواعدوا على اللقاء واختفوا من ثلاثين عاماً، رائحة الدم تطغى على المدينة، وطعم الخبز العفن يدخل أفواهنا، فيما الأقسى هو صوت النساء اللواتي استباحهن العسكر، وقضى على عائلاتهن.
في ذلك المكان بقي صوت الرجال والاطفال وهم يصارعون الموت بعد رميهم بالرصاص، ودمار مدينتنا الصغيرة الجميلة، وكأن زلزالاً قد اصابها، زلزال أقسى بكثير مما رأيت في حياتي.
وصلنا الى نقطة اللاعودة، هناك في الشاحنة التي أقلتنا باتجاه الريف، كنا حفاة، ونصف عراة، لقد هجّرونا من منازلنا الدافئة، وقتلوا من قتلوا وبدأت الرحلة الأكثر ايلاماً من ما سبق، الأسوز أثراً على الجميع.
في تلك القرية، تم استضافتنا أهلها بمنتهى الحفاوة والتكريم، وهذا إن دل فانه يدل على لطف الشعب السوري وتضامنه، وصموده موحداً في وجه المصاعب، والأيام السوداء التي لا تتوقف.
بقينا في تلك القرية مهجّرين واكملنا الفصل الدراسي الثاني بمدرسة القرية. بقينا هناك بعيدين عن المدينة التي لن نعود إليها خلال هذا العام أبداً،. هناك استشهد ابي، ومثلوا بجثته، سرقوا ممتلكاته ودمروا ما تبقى منها، فبقينا في ذلك المكان البعيد والمنسي حتى بداية عام دراسي جديد، ثم عدنا الى حماه وسكنّا في بيت لأحدى خالاتي التي احتضنتنا، كأننا أولادها.
في البداية لم نكن نعرف عن عمتي شيئاً، فهي تاهت في قرى المنطقة البعيدة، وبالصدفة استطاع احد اقربائنا ان يجدها، ويخبرها عنا، هي التي خطف أخيها من بين ن يديها.كان اللقاء معها صعباً، واتذكر عندما رأيتها لم أصدق عيني من الفرح و البكاء. لم اتوقع ان اراها بهذا الشكل، في السابق كانت كالملكة، والآن تغير كل شيء.
كل شيء صار أقل قسوة في نظري، احتضنتها لساعات انا واخوتي وامي، جميعنا نبكي كموجة من الهستيريا المرة، قدر لا يمكن تغييره و قضاء لا نستطيع ضده شيئاً.
في ذلك اللقاء الذي غطته الدموع، روت عمتي كيف اعتقل ابي في الملجأ الذي مررنا لنتعرف عليه، قالت إنها من تلك اللحظة لم تره ابداً، وعلمت من بعض الناس الذين نجوا من تلك المجزرة عن استشهاد أبي، أخيها.
بكينا وبكينا، صار البكاء عادة في حماه، فالناس عندما يزورون بعضهم البعض يبدأون بالبكاء قبل القاء التحية والسلام. عندما تلتقي وجوههم تسمع شهيقهم، من ألم لا يحتمل، ألم لا يطاق.
البيت الذي سكنّا به كان يضم كل من ليس لديه بيت. فقد دمرت احياء كاملة كالبارودية والكيلانية والزنبقي والشمالية وغيرها. تغيرت معالم المدينة، وصار هناك شكل جديد للأحياء، كما لم يبق بيت بحماه ليس له شهيد ومعتقل واحد على الاقل. وأحياناً أكثر من شهيد وأكثر من معتقل.
ذهبنا الى مدارسنا بعد معاناة كبيرة وقهر وذل وجوع.. واقسم لكم، ان الصف الذي كنت فيه (الثاني الابتدائي) لايوجد سوى طفلين ن ليسا يتيمينن.
هل تتخيلون معي حجم الكارثة. في صفي ليس هناك الا طفلين ن ليسا يتيمين. هل تدركون كم عانينا لنتجاوز ازماتنا الداخلية كأطفال؟ كم كابرنا على جراحنا وحرماننا لنحاول ان نكبر مثل الأطفال الآخرين. لم نتجاوز هذه المحنه اليوم و نحن كبار.
بعدها، تابع "النظام "، وهو لايستحق كلمة "نظام"، ممارسة ساديته علينا، وكذلك قيامه بأنواع جديدة ومختلفة من التعذيب،.لم يتوقف مثلاً عن اعتقال الجيل الذي يكبر قليلا، وخصوصاً الجيل الذي سبقني بالعمر . اعتقل وغيّب الكثيرين الى الآن، والاسماء معروفة عند جميع اهالي حماه، فهم أولادهم الذين اختفوا في تلك المرحلة.
اعتقالات جماعيه طالت شباباً بعمر الخامسة عشر والسادسة عشر و السابعة عشر، جميعهم غيّبوا في السجون، وصارت حياتهم منسية، وعالقة في قلوب أهاليهم يتجرعون كل يوم مأساتهم. ولتزيد العصابة من عذاب اهالي حماه ولتمعن في ذلهم ومهانتهم، بدأت هذه العصابة باطلاق بعض السجناء الذين لم يتم تصفيتهم في سجن "تدمر". اطلاق السراح هذا كان يتم فقط بالمناسبات الوطنية "البعثية"، كالحركة التصحيحية و غيرها من أعياد.
تعوّد اهالي حماه على ذلك عبر السنوات، فكانت كل مناسبة هي لخروجهم جميعاً الى المدخل الجنوبي للمدينة، أي نحو طريق حمص، ويصير المشهد هناك كالتالي: نساء واطفال ورجال وعجزة ومعهم كل اهالي المدينة، يوقفون الباصات والسيارات القادمة من حمص ويبحثون ويصرخون كل باسماء مفقوديه، هنا تصرخ أم باسم ابنها او امرأة باسم زوجها، أو حتى طفلة صغيرة تبحث عن والدها الذي صار شكله منسياً بالنسبة لها، كان البكاء لايتوقف، ويستمر هذا المشهد طوال اليوم في حالة من الفوضى والقهر والبحث عن مفقودين بطريقة لا تمت للعقل بمنطق.
واحيانا كان بعض الناس يجدون مفقوديهم، ربما ثلاث او اربعة عائلات على الأكثر، فيما تعود المدينة بأكملها مكسورة الخاطر من دون اي صوت يعبرون فيه عن الالم الذي بداخلهم. أما الذين يجدون سجناءهم فهم لم يكونوا اكثر حظا من الآخرين. فمعظم الناجين ن من السجناء لا حول ولا قوة لهم، كانو يكسرون قلوبنا بشكلهم وبؤسهم ونفسيتهم، كان وضع الذين ماتوا أفضل منهم.
القاتل وشقيقه
أحد معارفنا خرج من السجن، وذهبنا لاستقباله. كان الرجل بحالة جيدة ذهنياً و عقلياً، والسبب أنهم اخرجوه من سجن "تدمر" ونقلوه إلى سجن "صيدنايا" لمدة ستة اشهر قبل اطلاق سراحه. وأُقسِم ان هيكله العظمي كان ظاهراً تماما ولونه الابيض لايشبه لون البشر ابداً. فهو في السجن لم ير الشمس لسنوات طويلة. وروى لي كل شيء عن سجنهم في تدمر. وإحدى أغرب القصص ان أحد السجناء الموجودين في مهجعه عانى من آلام الزائدة الدودية، كانت تظهر عليه لأيام من الوجع الذي لا يحتمل، فيما السجناء ممنوع عليهم طلب المساعدة من السجان والحراس. فالسجان كان يطل عليهم من فتحة بسقف المهجع، واذا طلبوا منه الدواء أو أعلموه بآلام صديقهم، فسيكون الإقتراح الوحيد للسجان عليهم تصفية المريض، بمنتهى البساطة.
أحد الأطباء المسجونين هناك في المهجع، قرر أن يجري له عملية على الفراش داخل المهجع وبصمت تام، لئلا يأخذه الحراس ويرمونه بالخارج. تخيلوا المشهد!!! فُتحت بطن السجين بقطعة معدنية من التنك، وامسك الآخرون بالمريض حتى لايتحرك ابداً وبعضهم اغلق فمه بقطعة قماش، وأجرى الطبيب العملية، وخيط جسم المريض بعدما صنع ابرة من ذات التنك، فيما لم أعرف من أين أتى بالخيوط التي أخاط بها الجرح. تمت العملية ولم يخرج صوت واحد من الغرفة، لم يرتفع الألم أعلى من هامة الرجل المطروح أرضاً يطلب شربة ماء أو قليلاً من البنج.
هذه صورة صغيرة من الخوف والقهر داخل سجون النظام
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/