أبي الذي قُلِعَت عيناه ورُمي لأنه طبيب: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (5)
خلال هروبنا من بيتنا، حاولت أن ألحق بأبي بعد افتراقه وعمتي عنا، ولكنه ردني إلى حيث أمي وأخوتي وباقي سكان "البارودية" بعد أن صفعني. كأنه كان يعلم أن بعد هذه الخطوات خطر عليه وابتعادنا عنه حياة لنا، أو أنه اعتقد أنني لن أنسى تفاصيل المأساة ما حييت واخبر عما حصل لنا في حماه. اليوم أروي قصة مقتل أبي وكأنني أراه أمامي، أحسّه موجوداً في كل شهيد أو معتقل. ربما يكون هناك ازدياد في ارتباكي في كتاباتي في هذا الجزء من الشهادة الآن، فاعذروني لأن أتحدث عن (أبي).
آه يا ابي كيف استطعت أن ترسلنا الى المجهول، يا له من ألم، كيف عمل قلبك وعقلك آن ذاك، وهل من لحظة الافتراق بدأت عذاباتك تكبر.
في الملجأ الذي دخله هو عمتي تم اعتقاله الى الابد، وذلك عند وصول الجيش الى الملجأ، بعد ان تم تأخيرهم من قبل بعض الشبان الشجعان الذين أعرف أحدهم معرفة اليقين، والذي اخبرني كم عانوا من القصف، وكيف استطاعوا تأخير دخول "التتار" لعدة ايام.
اعتُقل ابي وجميع الرجال الموجودين في الملجأ، واقتيدوا الى معمل البورسلين، وهذه الرواية وصلتني ممن كانوا معه هناك. بعد أيام، وهم تحت المطر من دون طعام، كانت السماء تروي عطشهم، وربما مرة أو مرتين يأتي الجنود ببعض الخبز ويبدأون برميه ويطلبون تحت تهديد السلاح ان يتراكض الناس إليه للإمعان في إهانة المعتقلين. هناك بين الهنغارات والأقبية كانو يتقاسمون الألم كعادتهم. فالقبو اكثر دفئاً من الهنغارات التي تحميهم من الرياح والشمس، والساحة خارج الكون، هناك القتل والتشويه والسحل وخلع الاسنان وقص الآذان والألسنة وقلع العيون وكسر الأطراف، ومع ذلك الناس كانوا يتبادلون الأدوار ويتقاسمون الالم.
بعد أيام من وجوده في الاعتقال، كان الناس ينادونه "يا دكتور" كنوع من الاحترام وتخفيف الألم، وهو الذي خفف آلامهم من قبل،. وكان دائماً يطلب من الجميع عدم مناداته بالدكتور، لأنه كان يعلم أنهم لن يتركوا مثقفاً حياً في مدينته وهو الذي وقّع على "بيان مثقفي حماه" الذي أرسل الى النظام طلباً لاحلال الديمقراطية واطلاق الحريات والى آخره من حقوق إنسانية. أحد الشهود روى لي ان ابي رآه يحمّص قطعة خبز صغيرة على أحد الأفران هناك، فقال له "كُلها كما هي"، والى الآن لم يستطع الرجل تفسير قصد والدي: هل هو من اجل عدم نقصان فائدتها الغذائية أو من اجل رائحتها مراعاة لجوع جميع المعتقلين.
خبر وجود أبي في المعتقل تسرب إلى أحد الضباط، فبقاء طبيب بين أكثر من خمسة آلاف معتقل أمر لا يريده النظام ولا ضباطه.
تم جمع المعتقلين في الساحة، وبعدها قال الضابط الكبير نريد طبيباً، وأوحى للجميع أن هناك حالة صحية طارئة، فخرج أبي ولبى النداء، وهوالذي اقسم على قسم ابقراط،. وكان هناك طبيب آخر لبى نداء الواجب، ولكنهما لم يكونا يعلمان بالمكيدة،. في البداية سُحِلَ أبي والطبيب الاخر وعُذِّبا من دون رحمة، واقتلعوا احدى عينيه وهو يصارع الألم،! مشاهد بشعة رواها لي أحد الذين كانوا هناك، كان أبي مرمياً على الارض يتلوى من الألم وانهالوا عليه بالأسلحة وكانهم يتسلون ويلعبون! وقبل ان يموت، تكالب الجنود عليه وكأنهم ذئاب، لساعات طويلة دامت آلامه... كيف كنت تشعر يا ابي...؟ وبعدها رُمِيَ جسده الذي يشبه جسدي، ووجهه الذي يشبه وجهي، وروحه التي تشبه أروح شهدائنا اليوم، في الساحة، ثم سلم جسده للمستشفى الوطني وبقي مرمياً مع الشهداء على باب المستشفى. لم تنتهِ عذابات ابي الى تلك اللحظة، فقد قلعت عينه الثانية هناك، وأخرجت بطاقته الشخصية وخُرزت في ملابسه.
بعدها استطاع احد اقربائنا ان يأخذ الجثمان، وتم دفنه من غير عيون.
واليوم اقسم أنني لن اتوقف عن المطالبة بحقوقنا كاملة، وان ينال القتلة القصاص العادل. ولم ولن اهدأ حتى تعيدوا لي عيون أبي لادفنهما هناك حيث هو مدفون.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/