غزة: الشعب في خدمة الحكومة
بقلم: محمد المدهون
غوردن براون، هو رئيس الوزراء البريطاني، ولا يخفى ذلك على أحد. لكن الغريب، وفي ثقافتنا العربية على وجه التحديد، أن هذا الرئيس للوزراء اعتذر لسيدة بريطانية مسنة، لأنه وصفها بـ"شديدة التعصب". إذاً (رئيس وزراء) (يعتذر) ولـ(ختيارة)؛ ليس لأنه وصفها بـ"خائنة" أو "انتهازية" أو "محرّضة" أو "تتعامل مع جهات معادية" أو "متساوقة مع حركة فتح!"، بل لأنه قال عنها إنها "شديدة التعصب"!. انتهى.
من لندن إلى غزة. حيث ضجّ المواطنون منذ أسابيع، بسلسلة من المكوس والضرائب التي فرضتها عليهم الحكومة الفلسطينية في قطاع غزة، بعد أن ضيّقت عليها السلطات المصرية فيما يتعلق بمصادر تمويلها الخارجية، والتي تمثّل، بحسب ما يقول مسؤولوها، 90% من مواردها المالية.
المصريون، ومنذ ديسمبر الماضي، شرعوا ببناء ما أسموه "إنشاءات هندسية"، على حدودهم مع القطاع، مجففين منابع الإمداد المالي لحركة حماس التي تمسك بزمام الأمور فيه، ومغلقين معظم الصنابير التي كانت تصبّ الدولارات في جيب الحركة وحكومتها.
الحكومة عجزت عن تسديد رواتب ما يربو على 30 ألف موظف في وزاراتها، ومنتسب لأجهزتها الأمنية. تأخرت شهرا، ثم الذي يليه، قبل أن يتفتق ذهن من يتولون أمرها عن مصدر تمويل جديد، كان غائبا عنها، وهو المواطن. إذاً، صار الشعب في خدمة الحكومة.
أمام هذه السريالية الفريدة من نوعها، والتي لا مثيل لها إلا في غزة، التي شهد كل من زارها بأنها منطقة منكوبة، وأن أحوال سكانها كارثية، عجز المواطنون عن فعل شيء سوى الكفر بممارسات حكومتهم، من تحت الطاولة، وتسليم الأموال لمناديبها من فوقها!.
وبعد أسبوع من "قرصنة" الحكومة على البقالات ومحال البيع –والوصف هنا للتجار-، مجبرة أصحابها على دفع 3 شواكل، كاش ودون تأجيل، على كل علبة سجائر في محلاتهم، أصدرت الجبهة الشعبية بيانا نددت فيه بـ"الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية" التي تفرضها الحكومة على مواطنيها، ومضمونه كما عنونت لخبره جريدة الأخبار اللبنانية أن "غزة ضاقت ذرعا منكم"!، متوعدةً فيه بـ"معركة ديمقراطية سلمية" تكون هي القائد فيها، والمواطنون جيشها، لمجابهة هذه القرارات.
كيف ردت حكومة حماس؟ الحكومة والحركة الإسلامية التي تديرها، تعاملت مع بيان الجبهة، وكعادتها مع أي معارض لسياساتها، بمنطقٍ أمني، معتبرة إياه يزعزع ما وصفته بالاستقرار وحالة الأمن والأمان التي يعيشها القطاع. وسارعت بعد ساعات، وبطريقة لا سند قانونيا لها، إلى اختطاف عدد من كوادر الجبهة الذين شاركوا في توزيعه، فيما اقتحمت مكتب الجبهة في خانيونس دون مسوغ قانوني.
نحن، وبلا شك، أمام إمعان آخر، للحركة الإسلامية، في انتهاج أسلوب الحسم العسكري، مع معارضيها، وأمام شكل آخر، من أشكال الحكم الثيوقراطي الذي انتهجته الحركة منذ أن سيطرت على القطاع عسكريا قبل 3 أعوام.
وبعيدا عن هذا وذاك، أترك الحكم للقارئ، بين ما أوردته في فقرة المقال الأولى، وما تلاها من فقرات، ليرى مدى البون الشاسع بين حالة رئيس الوزراء البريطاني حاكم بريطانيا (صحراء الديكتاتورية القاحلة)، وبين قطاع غزة (جنّة الديمقراطية الغنّاء)، وما فعلته الجبهة من "استغلال للمساحات الواسعة للحريات الممنوحة (فوزي برهوم)"، شكّل "حالة من الانفصام الوطني والانحراف عن جميع المسارات الوطنية (إسماعيل الأشقر)"!!.
ما يحدث في غزة اليوم، في ظل ما تعانيه الحكومة من أزمة مالية، واشتداد للحصار عليها، ومراوحة لمكانها على صعيد المصالحة وصفقة شاليط وعلاقتها مع الاحتلال، يعيد حركة حماس إلى مربعها الأول، بممارساتها التي انتهجتها بحق المواطنين في القطاع في الأشهر التي تلت حسمها العسكري، والتي شهدت انتهاكات مهولة بحق الحريات العامة والخاصة، وألّبت عليها مؤسسات حقوق الإنسان، قبل أن تستوعب متطلبات حكمها تدريجيا، وتصبح أكثر ذكاء مع مرور الوقت في التعامل مع مواطنيها بعيداً عن الرؤية الحزبية الأحادية التي أغمضت أعينها خلال تلك الفترة.
على الحكومة أن تكون أكثر مراعاة لأحوال شعبها، الذي رفض أن ينقلب عليها وأن يحملها مسؤولية الدمار الذي لحق به، بعد الحرب الصهيونية الشرسة عليه، بل ووقف معها وساندها، وفوّت على عربٍ أشقاء قبل صهاينة أعداء، غمزوا من قناتها، فرصة استغلاله للانقضاض عليها، دافعا معها ضريبة الصمود والثبات.
على الحكومة أن تلغي قراراتها الأخيرة، أو أن تسمح للآخرين، بممارسة حقهم الطبيعي، بالمعارضة السلمية الديمقراطية التقدمية، لترى حجم السخط والتذمّر الذي يكنّه المواطنون تجاه هذه الضغوطات التي فرضتها عليهم، ولها بعد ذلك أن تعدل عنها، أو أن تواصل الإمعان فيها.
الضريبة معلوم أنها بداية لدورة، تبدأ من المواطن، وتنتهي عند المواطن. في كل دول العالم، يدفع المواطن الضريبة للحكومة، كي تقوم هي بدورها بتقديم الخدمات له، وليس ليوفر لها مصاريفها التشغيلية ورواتب موظفيها.
حالتنا استثنائية في غزة، والحكومة تعرف ذلك جيدا. وتعرف أيضاً، حسب أدبياتها الإسلامية، أن مقومات الحكم اثنتين: "وأطعمهم من جوعٍ، وآمنهم من خوف"، فإذا كانت قد آمنتهم من خوف، كما تقول، عليها الآن أن تكف عن التضييق عليهم في لقمة عيشهم التي بالكاد تسد رمقهم؛ حتى يستقيم مقوما الحكم الصالح!
لكن في الوقت الذي يركب فيه وزراؤها سياراتهم، ويسيرون في مواكبهم التي لا تقل زخما عن مواكب من سبقوهم؛ وفي الوقت الذي تُجبر المواطن فيه على أن يدفع ضرائب (لا تقل بالنسبة والتناسب بين حالة اليوم وحالة الأمس) عن ما كان يدفعه سابقا، بل تزيد... عليها أن توقف التغنّي بأنها تقاوم شروط الرباعية، وترفض الاعتراف بإسرائيل، ولا تتساوق مع المخططات الصهيوأمريكية للمنطقة؛ لأن من يفعل ذلك حقاً هو المواطن الغلبان الذي تمتطيه، دون أن تدفع هي ثمناً لذلك.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/