إفرازات الحرب
الإسرائيلية على قطاع غزة في ضوء
تقرير غولدستون
سفير. نبيل
الرملاوي
باحث في القانون
الدولي
تمهيد
بتاريخ
27 كانون الأول ديسمبر 2008 أشعلت إسرائيل حربها على قطاع غزة في وقت كانت
فيه
معظم الفصائل الفلسطينية هناك ملتزمة بالتهدئة وبعضها في طريقه إلى
الالتزام بها،
فجاءت الحرب الإسرائيلية لتنسف تلك الالتزامات، وأعادت المنطقة إلى أعلى
درجات
التسخين العسكري، ونظرا للتفاوت الحاد في التوازن والتكافؤ في القدرة
العسكرية بين
الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية في القطاع كانت نتائج الحرب مروعة
ومفزعة
حيث ذهب ضحيتها ألف وخمس ماية شهيدا وخمسة الآلف جريح عدد كبير منهم من
الأطفال
والنساء، كما خلفت الآلاف من ذوي الإعاقات الدائمة فضلا عن تدمير الآلف
المنازل
والأحياء السكنية، والمراكز الحكومية والمدارس والجامعات ودور العبادة من
مساجد
وكنائس، ومباني ومؤسسات حكومية ودولية بما في ذلك مقر هيئة الأمم المتحدة،
وقد
استعملت إسرائيل في ذلك كل ما تملكه من أسلحة بما فيها الأسلحة المحرمة
دوليا، كما
اعتمدت كل أساليب القتل دون مراعاة قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني
الذي
يلزم المتحاربين بقواعد معينة من شأنها عدم استهداف المدنيين، ودور
العبادة،
ومعاهد التعليم، والمنازل السكنية، والتجمعات المدنية، كما تقضي بالحذر
الزائد
لتفادي الإصابات في صفوف المدنيين وغير المتحاربين. ويبدو أن بشاعة الحرب
وعشوائيتها على القطاع وسقوط العدد الهائل من المدنيين الفلسطينيين ضحية
لها خلال
أسابيع ثلاثة، كان السبب الكافي لكي يتحرك مجلس الأمم المتحدة لحقوق
الإنسان،
ويتخذ قراره بتشكيل بعثة تقصي الحقائق للتحقيق في كل ما يدخل ضمن انتهاكات
القانون
الدولي والقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان التي تكون قد ارتكبت في أي
وقت في
سياق العمليات العسكرية التي جرى القيام بها في غزة أثناء الفترة من 27
كانون
الأول ديسمبر2008 إلى 18 كانون الثاني يناير 2009 سواء ارتكبت قبل هذه
العمليات أو
أثناءها أو بعدها، وتحديد المسؤولية عنها توطئة لمقاضاة مرتكبيها.
قبلت
البعثة برئاسة القاضي ريتشارد غولدستون المهمة التي أسندت لها، وباشرت
عملها
الذي استمر شهورا طويلة زارت خلالها قطاع غزة مرتين كما قامت بزيارة عمان
مرة
واحدة، وحظيت البعثة بالترحيب والتعاون من جميع الأطراف المعنية في المنطقة
وفي
مقدمتها السلطة الوطنية الفلسطينية باستثناء إسرائيل التي رفضت استقبالها
أو
التعاون معها. وفي سياق عملها الواسع المكثف أجرت البعثة المقابلات مع
ضحايا
الحرب، وشهود العيان، كما أجرت جلسات استماع لشهادات في مقر الأمم المتحدة
في
جنيف، واستعملت كل الوسائل المتاحة للحصول على أكبر عدد ممكن من الوقائع
والأدلة
والإثباتات، وقامت بالتحاليل المطلوبة لعينات أصبحت بحوزتها خلال التحقيق
للتعرف
على أنواع معينة من آثار الأسلحة استخدمتها إسرائيل ضد المدنيين
الفلسطينيين.
وضعت
البعثة تقريرها الشامل حول تحقيقاتها والذي تضمن سردا مستفيضا للخطوات التي
اعتمدتها البعثة للحصول على المعلومات الأكيدة والثابتة، والأدلة الدامغة
من
المصادر المتعددة، فلسطينية، وإسرائيلية، وصحفية، ومؤسسات العمل المدني
والحقوقي
وغيرها من المصادر الموثوقة، وأشتمل التقرير إضافة إلى ذلك على بابين هما
الأول
خصصته للاستنتاجات والثاني خصصته لتوصياتها إلى المؤسسات الدولية
المعنية.
إن
نظرة شاملة ومعمقة إلى تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن
انتهاكات حقوق
الإنسان خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة برئاسة القاضي ريتشارد
غولدستون،
تظهر بوضوح مدى جدية ومهنية وموضوعية البعثة وأمانتها من حيث المنهجية
والواقعية
والمرجعية القانونية والشمولية المطلوبة بالنظر لخطورة ما ارتكب من جرائم
بحق
الشعب الفلسطيني في تلك الحرب، مما قاد البعثة في النهاية إلى استنتاجات
وتوصيات
بالغة الأهمية.
أهمية
تقرير غولدستون وتميزه
لم يكن تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق والذي أشتهر بتقرير
غولدستون حول
الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي ومبادئ
القانون
الدولي العام، لم يكن هو التقرير الأول في هذا الشأن، بل كان قد سبقه على
مدار
عشرات السنين الماضية وعلى وجه التحديد منذ عام 1972 تقارير دولية وضعتها
بعثات
ولجان تقصي حقائق مكلفة من الجمعية العامة أحيانا أومجلس الأمن أو لجنة
حقوق
الإنسان أحيانا ومقررين خاصين معنيين بالممارسات الإسرائيلية التي تنتهك
حقوق
الإنسان ومبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في الأراضي
الفلسطينية
المحتلة أحيانا أخرى. وغالبا ما كانت تلك التقارير لا تختلف من حيث المضمون
النوعي
عن تقرير القاضي غولدستون وكان أخرها تقرير مفوضة الأمم المتحدة السامية
لحقوق
الإنسان بشأن تنفيذ قرار مجلس حقوق الإنسان بخصوص الانتهاكات الجسيمة لحقوق
الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبخاصة الانتهاكات الناشئة عن
الهجمات
العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة المحتل والصادر بتاريخ 19 آب/
أغسطس
2009، غير أن ما يميز تقرير غولدستون عن تلك التقارير هو أن تقرير غولدستون
تمتع
بجرأة أوضح وتضمن مستوى شموليا اكبر وأوسع من التوصيات والاستنتاجات، وموجز
تنفيذي
بحيث احتوى كل ذلك على ما يجب أن يقوم به كل من مجلس الأمم المتحدة لحقوق
الإنسان
والجمعية العامة ومجلس الأمن وصولا إلى المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة
الذين
ارتكبوا الجرائم خلال تلك الحرب والمثبتة في التقرير استنادا إلى تعريف
القانون
الدولي والقانون الدولي الإنساني لها إضافة إلى ما قدمه التقرير من براهين
وأدلة
على سياسة إسرائيل المنهجية في ارتكاب الجرائم المختلفة ضد الشعب
الفلسطيني
على مدى سنوات الاحتلال كلها كدليل على توفر النية في ارتكاب تلك الجرائم
عند ساسة
إسرائيل وقيادات جيشها. إن إثبات توفر النية في ارتكاب هذه الجرائم هو شرط
أساس
لمقاضاة مرتكبيها أمام العدالة، بل ذهب التقرير إلى أبعد من ذلك عندما ذكر
بأن
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وقعت حين كان قطاع غزة يخضع إلى حصار
إسرائيلي
صارم منذ حوالي ثلاث سنوات والذي يشكل بحد ذاته جريمة ابادة جماعية وفقا
لتعريف
القانون الدولي لهذه الجريمة إضافة إلى كونه عقوبة جماعية وجريمة حرب تتحمل
إسرائيل مسئوليتها ومسئولية تبعاتها أمام القانون الدولي.
وقبل
أن أدخل في جوهر الموضوع، أرى أنه لزاماً علي أن لا أغفل مسألة بالغة
الأهمية
تتعلق بعنوان الوثيقتين الصادرتين عن الأمم المتحدة بهذا الشأن، الأولى
تضمنت
الموجز التنفيذي للتقرير بتاريخ 23 سبتمبر 2009، والثانية تضمنت
الاستنتاجات
والتوصيات كمحصلة للتقرير نفسه بتاريخ 24 سبتمبر 2009. وفي كلتا الوثيقتين
تضمن
عنوانيهما ما يلي : تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع
في غزة
. وهنا ورد هذا النص وكأن ما حدث في غزة هو نزاع بين قوتين متصارعتين،
وبالتالي
غير هذا النص حقيقة ما وقع على قطاع غزة من حرب بكل ما تحمله هذه الكلمة من
معنى
للحرب استعمل فيها الجيش الإسرائيلي كل ما يملك من أسلحة برية وبحرية وجوية
بما في
ذلك الأسلحة المحرمة دوليا كالفسفور الأبيض وغيره من الأسلحة المشابهة ضد
شعب
ومدنيين آمنين في منازلهم وعلى أرضهم وفي وطنهم. وساوى النص المذكور بين
الدولة
والجيش المعتديان من ناحية والشعب الأعزل المعتدى عليه من ناحية أخرى وجعل
من
الحرب على غزة نزاعا ، ومن العدوان العسكري الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني
عملا
مقابل عمل . ولكن لم يكن لمثل هذا العنوان أن يمر بمثل هذه البساطة في محفل
دولي
كالأمم المتحدة لولا صمت أو غياب أو انعدام الإلمام الكافي بأهمية ودقة
الكلمة
والحرف عند صياغة النصوص والقرارات والتقارير السياسية في المحافل الدولية
عند
الذين تبنوا هذه الوثائق ودافعوا عنها مع تقديري واحترامي لهم. وبالتالي
يرد هذا
النص تماما كمن يجعل من مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي
للأراضي
الفلسطينية نزاعا بين الفلسطينيين والإسرائيليين كما تريد تصويره إسرائيل
لتنزع عن
نفسها صفة الاحتلال وتقديم عدوانها واحتلالها للأرض الفلسطينية وكأنها
صاحبة حق
تخوض نزاعا مع غيرها عليه، وكأن الأمر هنا لا يتعلق باحتلال الأرض
الفلسطينية بالقوة
العسكرية عن طريق الحرب عام 1967، ولا يتعلق بخضوعها لمباديء وأحكام
القانون
الدولي التي لا تجيز احتلال ارض الغير بالقوة، بل هو في حقيقته عدوان مخل
بسلم
الإنسانية وأمنها وفقا لتعريف العدوان في القانون الدولي.
تقرير
القاضي غولدستون واسطوانة التوازن
استطاع
القاضي غولدستون في تقريره الشهير أن يوائم بين طبيعة المهمة الموكلة إليه
بأمانة
ومهنية من ناحية، والاستجابة للضغوط التي مورست عليه تحت شعار التوازن من
ناحية
أخرى. ففي حين كانت المسألة المعروضة على مجلس الأمم المتحدة لحقوق
الإنسان، هي
مسألة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان إبان الحرب الإسرائيلية على
قطاع غزة
والتي كان ضحيتها الشعب الفلسطيني، وهنا تبرز أهمية الولاية كما وضعها مجلس
الأمم
المتحدة لحقوق الإنسان والذي جاء فيها ( في 3 نيسان/ابريل 2009، أنشأ رئيس
مجلس
حقوق الإنسان بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة مسنداً
إليها
ولاية قوامها " التحقيق في جميع انتهاكات قانون حقوق الإنسان الدولي
والقانون
الإنساني الدولي التي تكون قد ارتكبت في أي وقت في سياق العمليات العسكرية
التي
جرى القيام بها في غزة أثناء الفترة من 27 كانون الأول /ديسمبر 2008
إلى 18
كانون الثاني / يناير 2009، سواء ارتكبت قبل هذه العمليات أو أثناءها أو
بعدها).
وفي المادة11 من الموجز التنفيذي يقول التقرير أن البعثة هي قررت أن من
المطلوب
منها، تنفيذا لولايتها أن تنظر في أي إجراءات اتخذتها جميع الأطراف
ويمكن أن تشكل انتهاكات لقانون حقوق الإنسان الدولي أو للقانون الإنساني
الدولي.
وتطلبت هذه الولاية منها أيضا أن تستعرض الإجراءات ذات الصلة في كامل الأرض
الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، وهكذا أرادت البعثة من هذه الصياغة التي
وضعتها هي،
أن تخفف من حدة الضغوط التي بدأت تظهر مع إنشاء البعثة والإعلان عن مهمتها،
فقد
تعرض القاضي غولدستون إلى ضغوط قادتها الولايات المتحدة وإسرائيل وعززتها
الدول
الأوروبية واللوبي الصهيوني في العالم تحت شعار إخضاع التقرير للتوازن،
ووردت
أنباء حينها تفيد بأن القاضي غولدستون قد تعرض للتهديد بالقتل، والجدير
بالذكر هنا
أن يتعرض من يتولى مثل هذه المهمة إلى القتل كما حدث مع الكونت برنا دوت
المبعوث
الخاص للأمم المتحدة عندما قتلته العصابات الصهيونية المسلحة عام 1948، أو
محاولة
القتل التي تعرضت لها السيدة ماري روبنسون المفوضة السامية السابقة لحقوق
الإنسان
عام 2000 عندما كانت تقوم على رأس بعثة تقصي الحقائق بتكليف من لجنة الأمم
المتحدة
لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة بإطلاق العناصر الإسرائيلية
المسلحة
النار على سيارتها. ومن ناحية أخرى يتعرض من يقوم بمثل هذه المهمة في إطار
الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي إلى نوعين من الضغوط، ضغوط خارجية وضغوط نفسية ذاتية
مترتبة
على الضغوط الخارجية من خلال الجهد المبذول لإظهار الحرص والتأكيد على
الموضوعية
لديه وإبراز الحيادية والنزاهة كأساس للعمل الموكل به إليه، وكانت هذه أولى
الصعوبات التي واجهها القاضي غولدستون قبل أن يباشر عمله. ولكنه خرج
القاضي
غولدستون من هذا المأزق بذكاء عندما قال بأن القذائف محلية الصنع التي
أطلقت على
إسرائيل ولم توقع أحداثا جساما، هي جريمة حرب وقد ترقى إلى الجرائم ضد
الإنسانية، وهنا
كان غولدستون يخاطب الضغوط الخارجية عليه والنفسية لديه، وتعمد أن يأتي
على ما
فرضته إسرائيل من حصار على قطاع غزة وما يسببه من هلاك متفاوت الدرجات
لأعداد
كبيرة من الناس وهو يندرج ضمن تعريف جريمة الابادة الجماعية وجريمة حرب
وجريمة ضد
الإنسانية في القانون الدولي، وما ارتكبته إسرائيل أيضا من قتل وجرح الآلاف
من
الفلسطينيين وتدمير للمنازل ودور العبادة والمدارس والجامعات، واستعمال
الأسلحة
المحرمة ضد المدنيين من أطفال ونساء ورجال، وهنا كان القاضي المخضرم
يخاطب
العدالة والقانون والمعايير الدولية، وترك للقضاء الدولي أن
يقول
كلمته في هاتين الحالتين وهو يعلم بأنه ليس هناك وجه مقارنة بين المسدس
والدبابة،
أو بين المخرز والكف، أو بين الهلع الناشيء عن صوت قذيفة بدائية الصنع،
مقابل قتل
الآلاف من المدنيين بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا،
والقضاء
الدولي قادر بدون شك على أن يدرك ذلك كله. ولهذا وضع القاضي غولدستون حدا
زمنيا
لإنجاز توصياته والآلية لذلك من خلال مؤسسات المجتمع الدولي لتقديم مرتكبي
الجرائم
هذه على اختلاف أنواعها إلى القضاء والعدالة الدولية. وهكذا خرج غولدستون
من مأزق
الضغوط من باب واسع مؤديا مهمته بموضوعية ومهنية عالية وذكاء بارز تمتع به
القاضي
غولدستون، لاسيما عندما لجأ إلى حلحلة المشاكل المستعصية والخروج منها بما
لا يمس
مصداقيته بالتزام عال ودقيق لمهنته القانونية ونزاهته القضائية.
القاضي
غولدستون وحماية إسرائيل من نفسها
من
المعروف أن القاضي ريتشارد غولدستون يهودي الديانة وقيل عنه أيضا انه
صهيوني،
وابنته التي أقامت في إسرائيل كانت قد صرحت لإذاعة الجيش الإسرائيلي، أن
القاضي
غولدستون أخذ على عاتقه المهمة من أجل تحقيق السلام وأن الجميع يعمل لصالح
إسرائيل، وذكرت مصادر إعلامية إسرائيلية أن غولدستون يهودي من جنوب إفريقيا
يعرف
نفسه على أنه يهودي صهيوني، وهو رئيس فخري لعدة هيئات في إسرائيل بينها
مجلس إدارة
شبكة مدارس، ولجنة أصدقاء الجامعة العبرية في القدس. وكانت هذه الحقائق
تثير عدد
من التساؤلات عند الكثيرين بالنظر لما امتلأ به تقريره من الوقائع
الموضوعية التي
تدين مرتكبي الجرائم الإسرائيليين والمطالبة بمقاضاتهم أمام العدالة. وهذه
مسألة
شكلت عند القاضي غولدستون مأزقا آخر إلى جانب مأزق التوازن الذي تحدثنا عنه
سابقا
وكيف خرج منه القاضي المخضرم بذكاء بارز، وهنا أيضا كان على القاضي أن
يستعمل كل
حنكته وبراعته القانونية والسياسية ليخرج من هذا المأزق دون أن يعرض نفسه
ومصداقيته التي ارتكزت إلى العدالة والنزاهة في جميع مهماته القانونية
والقضائية
السابقة واللاحقة إلى أي شك أو اهتزاز أو تساؤل، وهو في نفس الوقت يرغب في
أن يسلك
منهجا من شأنه أن يمنع حكومات إسرائيل من الاستمرار في سياساتها الهوجاء
المتمردة
على المجتمع الدولي والمدمرة لقيمه، والتي في حال استمرارها سوف تقودها في
يوم من
الأيام إلى مواجهة مع المجتمع الدولي في ظروف سياسية محتملة لا تقوى معها
إسرائيل
على الصمود، وقد لا تكون في صالحها كدولة على المدى الطويل بالنظر إلى
إنشائها على
أرض الغير تعسفا واغتصابا، وما تبع ذلك من عدوان وتوسع واحتلال وتنكر
لمباديء
القانون الدولي ومعاداة المجتمع الدولي من دون دول العالم كافة. فالقاضي
غولدستون
يريد أن يحمي إسرائيل من نفسها ومن شر أعمالها، باعتباره يدين بالديانة
اليهودية،
ولا يخرج عن صهيونيتها السياسية، ولذلك هو اعتمد نظرية بقاء الكل على حساب
الجزء،
حتى لو أدى ذلك إلى إيقاع القصاص على الجزء مهما كان هذا القصاص مؤلما،
ولكن في
سبيل المحافظة على الكل يجوز ذلك ويهون عند القاضي المتمرس. لذلك ابرز
غولدستون في
تقريره الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حربها على غزة
إبرازا
لا لبس فيه، وكرر ذلك في معظم فقرات تقريره، وعدد كل أنواع الجرائم
المعرفة في
القانون الدولي، وطبقها على الممارسات الإسرائيلية في غزة، فأكد وقوعها كما
ذكر
بأنها من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم. وفي الجانب التنفيذي والتوصيات
المتعلقة
بالتقرير وضح القاضي غولدستون الخطوات العملية الضرورية والهامة لمثول كل
من
ارتكبوا تلك الجرائم أمام القضاء في بلدانهم، وان لم يحدث ذلك، فيتوجب
التوجه إلى
المحكمة الجنائية الدولية، أو إلى محاكم الدول التي تمتد ولاية قوانينها
إلى
صلاحية محاكمة مجرمي الحرب في العالم كله، عملا بقاعدة عدم تمكين المجرمين
من الإفلات
من العقاب، ليكونوا عبرة لغيرهم في إسرائيل وليفرض على حكومة إسرائيل إعادة
النظر
بموقفها السلبي من التزاماتها الدولية والوفاء بها، والتعامل مع المجتمع
الدولي،
والانصياع إلى أحكام القانون الدولي والالتزام بمبادئه، والقاضي غولدستون
يعلم أنه
لو لم يفعل هذا، وتهاون مع الجريمة أو خفف من حقيقتها، فانه بذلك يجعل من
مرتكبي
الجرائم الإسرائيليين في مأمن من العقاب مما يشجعهم ويشجع غيرهم على ارتكاب
جرائم
مماثلة أخرى، وبالتالي يكون هو نفسه قد أجج من تحريض المجتمع الدولي على
إسرائيل
دون أن يسدي بالنصح لها، أو دون أن يأخذ بيدها ليضع قدمها على الطريق
الصحيح لكي
تتعايش مع المجتمع الدولي، وهذا ما لا يرضاه هو، بل هو يعمل من أجل الوصول
إلى
نقيضه تماما.
إذن
من وجهة نظر القاضي غولدستون أن الإسرائيليين الذين ارتكبوا الجرائم بحق
الشعب
الفلسطيني سواء خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أو أولئك الذين
فرضوا
ومازالوا يفرضون الحصار على القطاع، أو حتى كل من ارتكب مثل هذه الجرائم في
الماضي
في دير ياسين عام 1948، وفي صبرا وشاتيلا عام 1982، وفي جنين والمسجد
الأقصى
والحرم الإبراهيمي في الخليل وفي قطاع غزة بعد ذلك، هم أنفسهم يرتكبون
جريمة كبرى
ضد إسرائيل في نفس الوقت، وقال غولدستون في تقريره أن ممارسات إسرائيل التي
تنتهك
القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان بسياسة
منهجية ضد
الفلسطينيين إنما هي تقوض القانون الدولي.( وهذا يعني أنه لو سلكت باقي دول
العالم
نفس المنهجية الإسرائيلية في التعامل مع القانون الدولي والتنكر له لانقلب
العالم
رأسا على عقب وعاد المجتمع الدولي إلى قرون الغاب.) وفي حال استمرار حكام
إسرائيل
على هذا المنهج المتمرد قد تصل يوما أمورهم إلى ما يمكن أن يهدد دولة
إسرائيل من
حيث وجودها كله على المدى الطويل، حيث ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة مع
المجتمع
الدولي إذا ما تغيرت موازين القوى وتغيرت بالتالي معها العلاقات الدولية
تبعا
لذلك، وعاد الاحتكام إلى مباديء القانون الدولي في حل النزاعات، واضمحلت
هيمنة
القوة الغاشمة على القانون، وهذا ممكن الحدوث في ظل المتغيرات الدولية
الحتمية،
فلا شيء ثابت في علم السياسة، كما هو في العلوم الطبيعية، بل كل شيء متغير
ومتطور
ومتحرك، فما كانت هناك إمبراطورية إلا وكانت لها نهاية، وهذا ما يدركه
القاضي
غولدستون جيدا.
هنا
تصرف القاضي غولدستون كالمدرس الذي أوقع عقوبة قاسية بحق تلميذه المتمرد
على الدرس
والمدرسة، بهدف تهذيبه وتصحيح مساره وسلوكه من أجله هو ومن أجل مصلحته هو،
وليكون
عبرة لغيره من تلاميذ المدرسة الذين لو سلك كل واحد منهم كما فعل ذلك
التلميذ
المتمرد الفالت من العقاب لانهارت المدرسة كلها ودفع كل التلاميذ فيها ثمنا
باهظا من
حياتهم ومستقبلهم ومستقبل عائلاتهم ومجتمعهم.
قبل
أن ندخل إلى ما يتعلق بافرازات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومستوياتها
المختلفة تبرز أهمية الإشارة إلى نقطتين الأولى، هي استمرار رفض إسرائيل
التعاون
مع المجتمع الدولي برفضها التعاون مع بعثة تقصي الحقائق برئاسة القاضي
غولدستون في
حين قدمت السلطة الوطنية الفلسطينية كل التعاون والدعم لهذه البعثة كما جاء
في
التقرير، والثانية تتعلق بتأكيد التقرير في العديد من بنوده على طبيعة
الوجود
الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية على أنه وجود احتلالي، وهذا يدحض مزاعم
إسرائيل
التي تحاول أن تغير من هذه الحقيقة بتصوير الصراع بين الفلسطينيين
والإسرائيليين
على أنه نزاع على الأرض وليس مسألة احتلال إسرائيلي لها بالقوة العسكرية،
وهذا أمر
بالغ الأهمية تمتد أبعاده السياسية والقانونية إلى المنظور الحقيقي لواقع
الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي وبشكل خاص يمتد إلى ما يجب أن تكون عليه أسس أية
مفاوضات
تجري بين الجانبين مما يستدعي اعتماد المرجعية القانونية لهذه المفاوضات
والأشراف
الدولي عليها، ولم يغفل التقرير حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال
طالما كان
الاحتلال لأرضه قائما كما جاء في المادة 1897 والتي نصت على ما يلي: ( ومع
تركيز
البعثة تحقيقها وتحليلها على المسائل المحددة التي تندرج في إطار ولايتها،
برز
الاحتلال الإسرائيلي المستمر لقطاع غزة والضفة الغربية على أنه العامل
الأساسي
الذي تكمن وراءه انتهاكات قانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الإنساني
الدولي
المرتكبة بحق السكان المشمولين بالحماية والذي يقوض احتمالات تحقيق التنمية
والسلام. لقد أدى فشل إسرائيل في الإقرار بمسؤولياتها وممارستها بوصفها قوة
احتلال
ولا يزال يؤدي إلى زيادة وطأة آثار الاحتلال على الشعب الفلسطيني. وفضلاً
عن ذلك
فان ممارسات الاحتلال القاسية وغير المشروعة هي أبعد من أن تخمد المقاومة،
بل
تغذيها وتغذي معها مظاهر العنف التي تفرزها. وترى البعثة أن إنهاء الاحتلال
هو شرط
مسبق لعودة الحياة الكريمة للفلسطينيين فضلا عن تحقيق التنمية والتوصل إلى
حل سلمي
للنزاع).
إفرازات
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على المستويات المختلفة
أولا
على المستوى الفلسطيني:
يمكن
القول بأن أهم ما أفرزته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هو بلورة مفهوم
المقاومة
الشعبية كما يعبر عنها في استراتيجية العمل الفلسطيني في هذه المرحلة من
نشاطات
احتجاجية واعتراضية للجماهير الفلسطينية مع نشطاء أجانب متضامنين مع الشعب
الفلسطيني في نقاط محددة أمام الإسرائيليين خصوصا في بلعين ونعلين والمعصرة
على
سبيل المثال وهي في طريقها إلى التطور والاتساع، إضافة إلى محاصرة إسرائيل
على
المستوي الدولي من خلال توسيع نطاق التأييد والدعم لكفاح الشعب الفلسطيني
على
المستوى الدولي وفي المحافل الدولية، وملاحقة مرتكبي الجرائم الإسرائيلية
وجلبهم
للمقاضاة أمام العدالة الدولية.
_ التأكيد
مجددا على ارتكاب حكومات إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة
العدوان
ضد الشعب الفلسطيني، وإظهار حكومات إسرائيل بوجهها العنصري القبيح أمام
العالم
بممارساتها المتمردة على القانون الدولي وكأنها فوق القانون من دون دول
العالم
كله، وهذا ما يرفضه المجتمع الدولي، كما ترفضه الدول، والسكوت عليه في هذه
المرحلة
لا يعني القبول به على الإطلاق، ولا يعني أنه هو القاعدة التي حلت مكان
مباديء
القانون الدولي التي تحكم العلاقات بين الدول والتزمت دول العالم بها من
أجل سيادة
السلم والأمن الدوليين في العالم.
المفاوضات
مع إسرائيل
وضعت
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الشعب الفلسطيني وقيادته أمام الواقع
السياسي وجها
لوجه، وفرضت عليه نوعا من التقييم لمفاهيم وأساليب العمل في المرحلة
السابقة
للحرب، وعلى وجه التحديد مع عملية المفاوضات التي لم تسفر عن شيء حتى الآن،
إذ لا
معنى لمفاوضات من أجل التوصل إلى سلام بين طرفين بينما يستمر طرف منهما في
شن
الحروب على الآخر وارتكاب كل ما من شأنه تقويض أي مجهود نحو السلام.
فالمفاوضات
ترتكز إلى أركان معروفة لا تستقيم بدونها كما لا تستقيم عند الإخلال بأي
منها.
أركان
مفاوضات السلام مع إسرائيل
1_ الأطراف
المتفاوضة
2_ توفر
حسن النية عند المتفاوضين
3_ المفهوم
الموحد للسلام والمتقارب للهدف المنشود من المفاوضات
4_ المرجعية
القانونية للمفاوضات والإشراف الدولي عليها
فهل
كانت هذه الأركان متوفرة للمفاوضات في المرحلة الطويلة السابقة ؟؟
1-الأطراف
المتفاوضة
إذا
استعرضنا عملية المفاوضات في السنوات السابقة نجد أن المفاوضات لم تستند
إلى أي من
الأركان الأربعة المذكورة، لذلك لم تحقق هذه المفاوضات أهدافها على
الإطلاق. ففيما
يتعلق بالركن الأول وهو المتفاوضون والتكافؤ، كان الطرف الإسرائيلي الذي
يتمتع
بالقوة العسكرية واحتلال الأرض والتحكم بكل نواحي الحياة الفلسطينية
اليومية
وبالدعم الأمريكي المطلق يتحكم بسير ومصير المفاوضات، مقابل الطرف
الفلسطيني
الضعيف الذي كان عليه إما أن يقبل بالرغبات الإسرائيلية والإذعان لها أو لا
تحقق
المفاوضات أي شيء، لذلك ولأن الطرف الفلسطيني كان يرفض ذلك يبدو المشهد
وكأنه لم
يكن هناك متفاوضون.
2-
حسن النية
في
الوقت الذي قدم الجانب الفلسطيني كل ما يؤكد حسن النية لديه لإنجاح
المفاوضات، كان
الجانب الإسرائيلي إلى جانب افتعاله للعراقيل ووضع العقبات أمام المفاوضات،
كان
يمارس على الأرض ما يؤكد عدم توفر حسن النية لديه، وذلك بالاستمرار في
ارتكاب جميع
الانتهاكات لمباديء القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان
كاستمرار جرائم الاستيطان وتشييد الجدار، وتهويد مدينة القدس، وهدم منازل
الفلسطينيين، والمداهمات العسكرية واعتقال الفلسطينيين وقتلهم، وكل ما من
شأنه
تقويض عملية السلام مما كان يؤكد عدم توفر حسن النية عند الجانب
الإسرائيلي.
3-
مفهوم السلام عند الجانبين
في
حين كان الجانب الفلسطيني يتطلع إلى سلام حقيقي يقوم على تطبيق الشرعية
الدولية
وما يتعلق منها في توفير الفرصة للشعب الفلسطيني لممارسة حقه في تقرير
مصيره بدون
تدخل خارجي وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة في حدود عام 1967، وفقا
لمباديء
القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة ليعم السلام في المنطقة،
كان
الجانب الإسرائيلي يعتنق مفهوما آخر للسلام يتضح من خلال ممارساته اليومية
على
الأرض وهو الذي يقوم على الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، والإمعان في
تقطيع أوصال
المجتمع الفلسطيني، والتضييق على حياته وشن مختلف أنواع الحروب عليه إما
لقتله أو
تهجيره وإبعاده أو زرع بذور اليأس في نفسه، ودفعه إلى كل أنواع الانحراف
والتفكك،
وإلهائه بالأمور الحياتية اليومية للابتعاد عن التفكير في قضيته الوطنية.
وباختصار
يتأسس المفهوم الإسرائيلي للسلام على الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من
الأرض
الفلسطينية من ناحية وتدمير المجتمع الفلسطيني بكل أنواع وأساليب التدمير
من ناحية
أخرى. لذلك ولطالما أن الأمر على هذا الشكل من الاختلاف والتعارض بين
المفهومين
للسلام، كان من المتعذر التوصل إلى السلام المنشود من خلال هذه المفاوضات.
أسباب
التهرب الإسرائيلي من عملية السلام الحقيقية
لو
نظرنا إلى ما ذكرناه قبل قليل من ممارسات إسرائيل على الأرض مما يقوض عملية
السلام
ويجعل منها أمرا مستحيلا، نجد بكل بساطة أن هذه الممارسات ترتكبها إسرائيل
في حالة
من الحرب أحيانا، أوفي حالة من اللاسلم أحيانا أخرى، وهي ما زالت لم تستكمل
مشروعها في الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض قبل أن تصل إلى مرحلة
التوقيع على
اتفاقية سلام مع الفلسطينيين، هي تعلم أن هذا الأمر لا يتأتى لها إلا في
حالة من
الحرب أو في حالة من اللاسلم، وفي ظل حماية دولية لها مازالت قائمة مع
الأسف حتى
الآن. أما في حالة استتباب السلم ونزع الحماية الدولية المذكورة عنها فان
فرص
التوسع العدواني، واكتساب الأرض بالقوة وتهويدها، وتدمير المجتمع الفلسطيني
الذي
يشكل بالنسبة لها كابوسا مرعبا تصبح غير ممكنة أو معدومة أمام العالم، وهي
تتخذ من
حالة الحرب أو حالة اللاسلم مبررا لأعمالها العدوانية، وما دامت هي في
مرحلة من
التوسع لم تكتمل بعد، وما دامت القوة الدولية الحامية لها ما زالت قائمة،
إذن
لماذا يعنيها السلام في مرحلة لا تستطيع أن تحقق أهدافها التوسعية إلا في
حالة من
الحرب، فإسرائيل تعرف نفسها جيدا وتعرف أنها نشأت وقامت أساسا في فلسطين
كمستوطنة
يهودية عن طريق الحرب عام 1948، واستولت على كل فلسطين عن طريق الحرب عام
1967،
وتقيم المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية الآن في ظل الاحتلال
العسكري
المستمر لحالات الحروب السابقة، إذن هي تحقق اكتساب الأرض والتوسع وتهويد
فلسطين
عن طريق الحرب والاحتلال العسكري وهذا ما لا يتاح لها في حالة استتباب
السلام
والالتزام به أمام العالم.
4-المرجعية
القانونية للمفاوضات
المفاوضات
غير المتكافئة تؤول نتائجها لصالح الطرف القوي على حساب الطرف الضعيف خصوصا
عندما
تكون بلا مرجعية أو عندما تكون المرجعية منحازة إلى الطرف القوي، وهذا ما
كان عليه
الأمر خلال ثمانية عشر عاماً مضت من المفاوضات مع إسرائيل عندما كانت
مرجعية هذه
المفاوضات هي الولايات المتحدة الأمريكية حليفة إسرائيل، لذلك لم تحقق
المفاوضات
شيئا على طريق السلام بقدر ما كانت أحيانا رزمة من الاملاءات الإسرائيلية
المرفوضة
فلسطينيا، وأحيانا أخرى تعطيل إسرائيلي لأية محاولة في اتجاه التقدم نحو
الأمام. من
هنا تبرز الأهمية القصوى للمرجعية القانونية والإشراف الدولي لأية
مفاوضات
مع إسرائيل، لأن المفاوضات في هذه الحالة يجب أن تتأسس على كيفية زوال
الاحتلال فقط باعتباره عدوان وجريمة مخلة بسلم الإنسانية وأمنها ،ويجب أن
يزول
بدون قيد ولا شرط، وفقا لمباديء القانون الدولي التي لا تجيز اكتساب أرض
الغير
بالقوة ، ولا يجوز أن تتأسس بأي حال من الأحوال على أي نوع من المساومات أو
المقايضات بما يمس الأرض المحتلة والتصرف بها لكون الأرض ليست ملكا لأحد
سوى الشعب
الفلسطيني ولكل أجياله القادمة التي لا يملك أحد الحق في التصرف بحقوقها
الوطنية
في هذه المرحلة الزمنية.
_
الأهمية القصوى لإعادة النظر في المرحلة السياسية السابقة، وبالتحديد عملية
المفاوضات التي ثبت عقمها، والتوجه نحو أسس مرحلة سياسية جديدة لمفاوضات
مجدية،
والا فماذا يعني أن تدخل إسرائيل في مفاوضات بهدف التوصل إلى سلام مع الشعب
الفلسطيني بينما تشن هي في الوقت نفسه حربا عدوانية عليه تستعمل فيها كل ما
تملكه
من أسلحة تقليدية ومحرمة لتقتل وتجرح منه الآلاف وتدمر منازله وأماكن
عبادته
ومدارسه وجامعاته لم يسلم من حريقها لا شجر ولا حجر ولا بشر. ولقد انتهكت
إسرائيل
بهذه الحرب أهم ركن من أركان المفاوضات وهو مبدأ حسن النية الذي يجب أن
يتوفر عند
المتفاوضين قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات . هذا ما وفر القناعة بعدم جدوى
مفاوضات تفتقر إلى المرجعية القانونية والإشراف الدولي الحقيقي كما كان
عليه الأمر
في المرحلة السابقة التي امتدت إلى أكثر من ثمانية عشر سنة وجاءت بنتائج
عكسية
تماما، فإسرائيل لم تتوقف حتى يومنا هذا عن ممارسة كل ما من شأنه تدمير أي
جهد
نحو السلام، فالاستمرار في التوسع الاستيطاني في القدس وباقي الضفة
الغربية، وبناء
الجدار في الأراضي الفلسطينية، واستمرار الحصار على قطاع غزة، وأعمال القتل
والاعتقال للفلسطينيين شبه اليومية، والمداهمات العسكرية للمدن والقرى،
والاستيلاء
على منازل المواطنين في مدينة القدس, وتدمير العشرات منها وجعل أصحابها
بدون مأوى،
إضافة إلى ممارسات التطهير العرقي في المدينة تمهيدا لتهويدها، كل ذلك لا
يستقيم
مع التوجه للسلام، لذلك كله جاءت الحرب على قطاع غزة عاملا حاسما للنظر
وتقييم
مجمل المرحلة السابقة بشفافية وموضوعية، ومن ضمن ذلك عملية المفاوضات بشكل
خاص،
ويبدو أن هذا ما كانت تستند إليه السلطة الوطنية الفلسطينية بعدم العودة
إلى
المفاوضات مع إسرائيل إلا بعد وقف النشاطات الاستيطانية وقفا كاملا بما في
ذلك ما
يسمى بالنمو الطبيعي كما تزعم إسرائيل، وأهمية تحديد مرجعية للمفاوضات على
أن تكون
المرجعية القانونية، والإشراف الدولي هما الأساس لأية مفاوضات قادمة.
_ عدم
جواز التعامل مع المجتمع الدولي في جزئية، وتجاهله في جزئية أخرى كالتعامل
معه
فيما يتعلق بالحرب على غزة مثلاَ وملاحقة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين
للمثول أمام
العدالة الدولية، وتجاهله في جزئية أخرى تكتسي نفس القدر من الأهمية إن لم
تكن
أكثر أهمية تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي نفسه، والمفاوضات مع إسرائيل بهذا
الشأن.
فالتعامل مع المجتمع الدولي لا يجوز أن يكون انتقائياً.
_ الأهمية
البالغة للتأكيد على حقيقة الصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل على انه
صراع بين
شعب تحت الاحتلال و قوة قائمة بالاحتلال وليس نزاعاً على الأرض كما تريد
تصويره
إسرائيل، وهذه مسألة حاسمة تلقي بظلالها على طبيعة المفاوضات وتتصل
بالمرامي
الإسرائيلية في تغيير طبيعة الصراع بما يخدم أهدافها.
_القناعة
الجديدة بضرورة العودة إلى المجتمع الدولي، وهو تحول استراتيجي محق وبالغ
الأهمية
في العمل السياسي الفلسطيني من الأساس، ولم يكن من الحكمة إهدار سنوات
طويلة دفع
شعبنا خلالها ثمنا باهظا لكي نصل إلى هذه القناعة الآن. والعودة إلى
المجتمع
الدولي لها استحقاقات علينا الوفاء بها لكي نحقق ذلك، وان أهم هذه
الاستحقاقات هي
التعامل مع المجتمع الدولي وفق حقيقتنا الواقعية كحركة تحرر وطني كما تعامل
معنا
المجتمع الدولي في الماضي، وكان عنوانها منظمة التحرير الفلسطينية،
وأهدافها
تحرير الأرض الفلسطينية ومنح الشعب الفلسطيني فرصة ممارسته لحقوقه وفي
مقدمتها حقه
في تقرير مصيره، واختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي
بحرية وليس
أي شيء آخر.
_ فوق
كل هذا وذاك، بروز الحاجة القصوى والملحة لإنهاء الانقسام الفلسطيني وإعادة
اللحمة
إلى المجتمع والوطن في أقرب وقت ممكن. وعلى جميع الأطراف التخلي عن المصالح
التنظيمية الضيقة والنظر إلى الواقع من خلال المصلحة الوطنية العليا وما
يستتبع
ذلك من تنازلات من أجل إعادة الوحدة الوطنية أرضا وشعبا. إن حالة الانقسام
الراهنة
أمر خطير جدا يهدد القضية الوطنية برمتها ويضع الفلسطينيين كل الفلسطينيين
أمام مسئولياتهم
الوطنية ويدعوهم للتحرك بأقصى سرعة لرأب الصدع والتمزق الذي تسعى إسرائيل
إلى
ترسيخه والإبقاء عليه كوضع مثالي لتنفيذ مخططاتها وتحقيق أهدافها في
الاستيلاء على
كل الأرض الفلسطينية وتقويض كل مقومات وعوامل تكوين الدولة الفلسطينية وخلق
أمرا
واقعا جديدا يصبح معه الحديث عن حل الدولتين عديم المعنى.
_ من
أهم ما أفرزته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هو تأكيد قدرة الشعب
الفلسطيني على
الصمود المشرف أمام المحن والحروب التي يتعرض لها من قبل الاحتلال
الإسرائيلي،
وعندما نقول الحروب هنا نعني كل أنواع الحروب التي تشنها إسرائيل ضد الشعب
الفلسطيني من حصار قاتل، إلى فرض العقوبات الجماعية، إلى تقطيع أوصال
المجتمع، إلى
الاغتيالات والمداهمات، إلى قضم الأرض والاستيلاء عليها، إلى تدمير
المنازل، إلى
الاستيطان والتوسع، إلى تهويد مدينة القدس وضمها والتطهير العرقي فيها،
إلى آخر
ما يعدده القانون الدولي من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة
الجماعية.
_ إفشال
مخططات الاحتلال وتبديد أهدافه المستندة إلى القوة وذلك بالصمود المشرف
والثبات
واعتماد المقاومة لعدوانه بكل الوسائل المشروعة والمتاحة. وتجدر الإشارة
هنا إلى
أن تعرض أي جزء من الوطن أو الشعب لعدوان أو احتلال إنما يتعرض له الوطن
والشعب
كله.
_ عجز
وفشل ممارسات الاحتلال العدوانية عن أن تخمد روح المقاومة عند الشعب
الفلسطيني في
كل مكان، بل إن هذه الممارسات في حقيقة الأمر تغذي المقاومة وتغذي معها
مظاهر
العنف التي تفرزها ( كما ورد في تقرير غولدستون نفسه ).
_ ارتباط
كل مظاهر العنف والعدوان وانتهاكات مباديء القانون الدولي وحقوق الإنسان
باستمرار
الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والتأكيد على أن إنهاء الاحتلال هو
شرط
لعودة الحياة الكريمة للشعب الفلسطيني والتوصل إلى السلام المنشود.
_ تأكيد
الشعب الفلسطيني على وحدته أرضا وشعبا عبر العديد من المواقف والفعاليات
التي
مارسها الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده ولاسيما في الضفة الغربية
خلال وبعد
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ثانياً
على الصعيد العربي:
_ إنعاش
التحرك الشعبي على مستوى الوطن العربي للضغط على الحكومات العربية نحو
اتخاذ
المواقف العملية للوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي ودعم كفاح الشعب
الفلسطيني في
مقاومته للاحتلال.
_ بروز
الهوة الواسعة بين إرادة الشعب العربي وشعوب العالم الإسلامي في كل مكان،
والتخاذل
العربي والإسلامي الرسمي في معركة هي أقدس القضايا العربية والإسلامية في
التاريخ
الحديث.
_ ظهور
الضعف والعجز العربي والإسلامي الرسمي المهين والمنقسم على نفسه أمام
الممارسات
الإسرائيلية التي تهدد سلامة الأمة، وتدمير مقدساتها، وتزوير تاريخها،
وسرقة تراثها،
واغتصاب أرضها، وقتل أبنائها.
_ ظهور
الحاجة الملحة لنبذ الخلافات العربية والعمل على توحيد المواقف العربية
والعمل
العربي في وجه الأخطار المحدقة التي تهدد الأمة العربية برمتها والعمل على
الاستعداد والأعداد لمواجهة هذه الأخطار على المستويات المختلفة السياسية
والعسكرية والاقتصادية وغيرها.
ثالثاً
على المستوى العالمي
_ تحريك
الرأي العام العالمي لتأييد ودعم الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الاحتلال
الإسرائيلي، وتنظيم حملات الدعم المادي والمساندة من مختلف دول العالم
والتي لم
تنقطع حتى الآن إلى قطاع غزة تحت شعار كسر الحصار المفروض على قطاع غزة
وإنقاذ
أهلها.
_ تحريك
الضمير العالمي باتجاه جلب مرتكبي الجرائم الإسرائيليين إلى العدالة
الدولية
وتحريك المنظمات الحقوقية العالمية لتنظيم حملات لتجميع وتوثيق جرائم الحرب
الإسرائيلية والتوجه إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية وحثه
على
القيام بمسؤولياته وفق صلاحياته المنصوص عليها في نظام روما الأساسي الخاص
بالمحكمة الجنائية الدولية، وتصعيد المطالبة بملاحقة مرتكبي الجرائم
الإسرائيليين
ومقاضاتهم أمام محاكم الدول التي تمتد ولاية قوانينها لتشمل مجرمي الحرب في
أي
مكان من العالم.
_ التأكيد
مجددا على التكامل الأمريكي الإسرائيلي في معاداة الشعب الفلسطيني والتنكر
لحقوقه
المشروعة، والذي ظهر من خلال رفض الولايات المتحدة الأمريكية بحث أي مشروع
قرار في
مجلس الأمن يتعلق بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة في حينها مما يؤكد
الشراكة الإسرائيلية
الأمريكية في هذه الحرب على الشعب الفلسطيني.
_ تعزيز
الزخم العالمي باتجاه الضرورة البالغة لحل عادل للمسألة الفلسطينية يستند
إلى تمتع
الشعب الفلسطيني بحقوقه المشروعة وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره بدون تدخل
خارجي،
وأهمية دور المجتمع الدولي في هذه المسألة المستعصية، وفشل تجربة الابتعاد
عن
المجتمع الدولي في هذا الشأن.
على
المستوى الأوروبي
لعل
أبرز ما أفرزته الحرب المذكورة على الصعيد الأوروبي هو ارتفاع تلك الأصوات
الأوروبية وفي مقدمتها صوت السويد التي طالبت بأن تكون القدس عاصمة للدولة
الفلسطينية، ثم تراجع هذه الأصوات لصالح أن تكون القدس عاصمة لدولتين بعد
جدل طويل
وأخذ ورد بين الدول الأوروبية قبل وخلال انعقاد مجلس الاتحاد الأوروبي في
بروكسيل
بتاريخ 8 ديسمبر 2009، وقد جاء في البيان الختامي للمجلس وهنا أقتبس (
اعتمد
المجلس المحصلة فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط. ودعا إلى سرعة
استئناف
المفاوضات التي من شأنها أن تقود إلى دولة إسرائيل ودولة فلسطين المجاورة
الديمقراطية والقابلة للحياة لتعيشا جنبا إلى جنب في سلام وأمن، ويذكر
المجلس
مجددا أنه لن يعترف بأي تغيير يطرأ على حدود 1967 بما في ذلك القدس غير ذلك
الذي
يتم الاتفاق عليه بين الإطراف المعنية. وفي موقع آخر يقول، إذا كان هناك
سلام
حقيقي، فيجب أن يتوصل عن طرق المفاوضات إلى حل لوضع القدس بما يجعها عاصمة
لدولتين. انتهى الاقتباس.)
-
ظهور أصوات في عدد من الدول الأوروبية داعية لتغيير قوانينها الجنائية التي
تسمح
بملاحقة ومقاضاة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم المماثلة الأخرى في أي مكان
من
العالم لكي تنأى بمرتكبي الجرائم الإسرائيليين عن ساحاتها وتمنحهم حرية
الدخول
إليها والخروج منها بحرية ودون ملاحقة.
على
المستوى الدولي
_ وضوح
العلاقة العضوية بين الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية في كل
من
الضفة الغربية وقطاع غزة ومعاناة الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه الوطنية
وفي
مقدمتها حقه في تقرير مصيره على أنه العامل الأساسي الذي تكمن وراءه
انتهاكات
إسرائيل الجسيمة لمبادئ حقوق الإنسان وأحكام القانون الدولي والقانون
الدولي
الإنساني بما يهدد السلم والأمن الدوليين بالخطر الشديد، ويأتي هذا تأكيد
لما ذهبت
إليه لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في قرارها 1985/4 في دورتها الحادية
والأربعين، والذي جاء فيه ( إن لجنة حقوق الإنسان تدين مسؤولية إسرائيل عن
المذبحة
واسعة النطاق في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين التي شكلت عملا من
أعمال
ابادة الجنس، وتعرب عن شديد قلقها لأنه إلى أن ينفذ حل عادل ومنصف
لمشكلة
فلسطين فسيتعرض الشعب الفلسطيني لأخطار جسيمة من قبيل المذبحة المروعة التي
ارتكبت
في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين.)
_ التأكيد
مجددا على أن الممارسات العدوانية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني بما
تشكله من
انتهاكات جسيمة لأحكام القانون الدولي ومبادئه من شأنها تقويض القانون
الدولي
برمته وتتنافى مع روح ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده.
-
التغير الحاسم في
الموقف التركي الرسمي المعزز بدعم شعبي هائل إزاء العلاقة التركية مع
إسرائيل
والذي ظهر بوضوح عبر موقف ر
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/