عروبة القدس عبر التاريخ
النشأة:
يرجع تاريخ إنشاء مدينة القدس وعروبتها في التاريخ إلى حوالي خمسة آلاف عام وكان أول اسم لمدينة القدس هو اورسالم أو اورشالم وهو اسم عموري ، والعموريون هم سكان كنعان الأصليون ولغة العموريين هي لغة الكنعانية والعموريين في الأغلب انبثق منهم الكنعانيين ([1])، ويمكن الاستنتاج أن القدس أسسها العموريون في الألف الثالث الميلاد وأن لغة سكان القدس كانت اللغة العمورية وجاء اليبوسين وهم بطن من بطون الكنعانيين الذين بنوا قلعة يبوس التي سموها قلعة صهيون وصهيون كلمة كنعانية تعني مرتفع.
ولذلك نجد هذا الاسم يطلق على اكثر من مرتفع في سوريا القديمة ، وقد انشأ اليبوسيون حضارة عريقة اتسمت بفنون العمارة والصناعة والتجارة والمعرفة بالكتابة وديانة وحضارة اقتبسها العبرانيون من الكنعانيون، بني اليبوسيون هيكلاً للإله شالم في مدينة القدس قبل هيكل العبرانيون بأكثر من ألف عام وجعلوا القدس مدينة مقدسة .
ويشير التوراة إلى أن ملكي صادق ملك شالم (كان كاهنا لله العلي) وقد اجتمع مع سيدنا إبراهيم وباركه، أخذ الأدب العبري من الآداب السامية التي سبقته في الحضارة والسكن في فلسطين [2].
واقتبس العبرانيون طقوسهم الدينية ومعالم الحياة الروحية من الكنعانيين ، عندما غزا العبرانيون أرض كنعان في أواسط القرن الثالث عشر قبل الميلاد بقيادة يوشع بن نون حيث كانوا عبارة عن قبائل بدوية متوحشة بلا حضارة لا تعرف إلاّ القتل والنهب والسرقة وعندما استقروا في أرض الكنعانيين أخذوا منهم الحضارة وكذلك ديانة اليبوسيين أهل القدس وأورشليم [3].
ظلت يبوس حوالي 250 عام مستعصية على العبرانيون حتى احتلها سيدنا داوود في عام 1000 ق.م وظل العبرانيون يعتبرون القدس مدينة غريبة عليهم .
احتل العبرانيون القدس ولم تصبح مدينة يهودية خالصة بل ظل أهلها اليبوسيون مقيمين فيها وظلت مدينة القدس طيلة حوالي ألفي عام بعد إنشائها مدينة امورية كنعانية يبوسية .
إن إغفال الحقبة السابقة للعبرانيين تنطوي علي تشويه لتاريخ القدس ، والأموريون العموريون والكنعانيون منشئوا مدينة القدس هما شعبان ساميان جاءوا من الجزيرة العربية وهم شعوب عربية ولذلك تكون القدس عربية من حيث تاريخها [4].
إن ساكني القدس الناطقين بالعربية هم من سكنوها وما زالوا متصلين بها ولم ينتقلوا عنها ولا اقتلعوا منها منذ 3000 عام ق.م أو أكثر وان طرأت عليهم موجات من الفتوح فإنهم ثبتوا في أرضهم وأقاموا فيها إلى حين الفتح الإسلامي للمدينة ، وبعد الفتح استعربوا واعتنق أكثرهم الدين الإسلامي واتخذوا العربية لساناً وهؤلاء هم سكان البلاد وأصحابها الحقيقيون [5].
إن اسم أورسالم أو يبوس ظل معروفاً عبر العصور كإسم لمدينة القدس انحدر من سكانها الكنعانيون ومن الألف الأولى قبل الميلاد وحتى الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع عشر ميلادي و كانت هناك قبائل عربية في القدس وحولها في فلسطين قبل الفتح الإسلامي [6].
هذا الوجود العربي في القدس قد يسَّر مهمة الفتح الإسلامي وقد سكنت مدينة القدس قبائل عربية بصفة دائمة بعد الفتح الإسلامي و سكن القدس أيضاً العديد من الصحابة والتابعين. استمرت هوية القدس العربية الإسلامية إلي أن احتلت عام 1099م من قبل الصليبيون الذين أبادوا جميع سكانها بوحشية فائقة وحولوا المدينة إلى مدينة مسيحية ودامت هذه الهجمة الصليبية الشرسة علي القدس 88 عام انتهت بتحرير صلاح الدين الأيوبي القدس عام 1187م وهو الذي أعاد إلي القدس معالمها الدينية الإسلامية إلي سابق عهدها([7]) .
استعادت القدس تاريخها الإسلامي العربي طوال العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني حتى القرن التاسع عشر عندما بدأ السعي الصهيوني الحثيث لتهويد القدس الذي لم يكن للصهاينة أي نسبة تواجد، فقد ملك عرب فلسطين القدس وكانت معظم أراضيها وقف إسلامي .
- مكانة القدس في العقيدة الإسلامية والتراث الإسلامي :
القدس مدينة الآباء والجدود وإليها أسرى سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ومنها عرج إلي السماء كما إنها القبلة الأولى للمسلمين، والحقيقة أن الكثير من الأنبياء عاشوا في القدس أو كان لهم بها صلة بشكل من الأشكال .
فالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكتب التفسير وكتب فضائل القدس أشادوا وأكدوا قدسية هذه المدينة وما لها في نفوس المسلمين، فالقرآن الكريم ذكر القدس في سورة الإسراء آية 1، سورة الأنبياء آية 105 ،71، وسورة المؤمنون آية 50، وسورة النور آية 36، وسورة النازعات آية 14 ، سورة الحديد آية 13 ، سورة التين آية 1،2 .
وكذلك ربط القرآن الكريم والحديث الشريف مكانة القدس الروحية بالمكانة الروحية لمكة والمدينة وفضل الإهلال والحج والعمرة من القدس فهناك أكثر من 115 حديث في القدس وفضائل الإقامة والسكن فيها وزيارتها .
فالقدس لها مكانة خاصة في قلوب المسلمين، وفي الحقيقة أن مجموعات الحديث وكتب الملاحم والقصص فيها الكثير عن القدس فهناك أكثر من تسعة وتسعين كتاباً تتناول مدينة القدس وهذا العدد دلالة واضحة علي مكانة القدس عند المسلمين ، هذه المكانة كانت في العصور العربية الإسلامية تقوم على النظرة الدينية وعلى المنزلة الرفيعة لها في الإسلام [8].
مكانة القدس في العصور العربية الإسلامية :
عصر الخلفاء الراشدين
بعد فتح القدس على أيدي المسلمين جاء الخليفة عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس وأعطى المسيحيين العهدة العمرية وأمر ببناء مسجد القدس وكذلك قام الخليفة عثمان بن عفان بوقف قرية سلوان على ضعفاء مدينة القدس وتميز الحكم الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين بالتسامح الديني حيث احتفظ المسيحيين بكنائسهم وبحرية أداء شعائرهم الدينية ([9]) .
العصر الأموي 660م-750م
أبدى خلفاء بني أمية اهتماماً خاصاً بالقدس وتردد على زيارتها كل من الخليفة معاوية بن أبي سفيان والخليفة عبد الملك بن مروان والخليفة عمر بن عبد العزيز والخليفة الوليد بن عبد الملك والخليفة سليمان بن عبد الملك وكل واحد منهم كان له أثر في مدينة القدس ، و مما لا شك فيه أن أعظم مآثر الأمويين في القدس هي الأبنية التي شيَّدوها في ساحة الحرم الشريف وقبة الصخرة عام 691م والمسجد الأقصى عام 708م وكذلك مقر الخليفة الوليد بن عبد الملك وكان للخليفة عبد الملك بن مروان مآثر عمران كثيرة في القدس منها تعبيد الطريق من دمشق إلي القدس لتيسير وصول الزوار إلي القدس، وكذلك انشأ الأمويون دار للسكة في القدس وضرب الخليفة عبد الملك بن مروان نقوداً في القدس كانت تحمل اسم إيلياء، وكذلك أنفق الخلفاء الأمويين الأموال علي إعمار القدس لتشجيع الحركة الدينية والعلمية فيها ([10]).
العصر العباسي 750م – 970م
جاء انتقال مركز السلطة من دمشق إلي بغداد في العصر العباسي حيث أصبحت الشام ولاية من الولايات ولكن الاعتراف بمكانة القدس الإسلامية استمر في العصر العباسي ، فقد اهتم الخليفة جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية بزيارة القدس حيث زارها مرتين وقد أمر الخليفة جعفر المنصور بإعادة بناء المسجد الأقصى بعد سقوط الأجزاء الغربية و الشرقية من المسجد بعد الزلزال الذي ضرب القدس عام 748م وقد غطى تكاليف إعادة إعمار المسجد الأقصى من ضرب صفائح الذهب والفضة التي كانت تغطي أبواب المسجد دنانير للإنفاق على إصلاح وإعمار المسجد الأقصى ([11]) .
وجاء الخليفة العباسي الثالث عام 780م وأمر بإعادة بناء المسجد الأقصى الذي تعرض لزلزال عام 774م، وأرسل الخليفة المهدي إلى كل الأقاليم يدعوهم إلى جمع الأموال من أجل إعادة إعمار المسجد الأقصى، وقد قال الخليفة الثالث يومها المهدي سبقتنا بني أمية بثلاث بهذا البيت (يعني مسجد دمشق) وبنيل الموالي وبعمر بن عبد العزيز ثم أتى إلى القدس ودخل الصخرة وقال هذه الرابعة [12].
اهتم كذلك الخليفة عبد الله المأمون بالقدس و أمر بإصلاح قبة الصخرة في ولاية أخيه الخليفة المعتصم عام 831م وقد ضرب الخليفة عبد الله المأمون فلساً تخليداً للإصلاحات في قبة الصخرة في دار السكة في القدس ، وكذلك قامت أم الخليفة المقتدر بالله عام 907-932م بإصلاحات في قبة الصخرة ، وفي ظل العباسيين شهدت الحركة العلمية في القدس انتعاشاً كبيراً تمثلت في زيارة عدد كبير من كبار الأئمة والعلماء من مختلف العالم الإسلامي إلي المسجد الأقصى ، وكذلك ظهرت الحركة الصوفية الذي بدءوا مريديها يذهبون إلي القدس بأعداد كبيرة وغدت مركزاً هاماً من مراكزهم ([13]).
الفاطميين :
حكم الفاطميين القدس زهاء قرن من الزمان 969-1070م وقد تميزت هذه الفترة من حكم الفاطميين بالاضطراب نظراً للصراع العسكري علي بلاد الشام بين الفاطميين والعباسيين والقرامطة وعلي الرغم من ذلك أولى خلفاء الفاطميين القدس وخاصة المسجد الأقصى وقبة الصخرة عناية كاملة فقد قام الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله عام 1020-1036 والخليفة المستنصر بالله 1036-1094م بأعمال تعمير هامة في كل من المسجد الأقصى وقبة الصخرة حيث قام الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله ببناء القبة عام 1022م وكذلك قام الخليفة الناصر لإعزاز دين الله بإعمار وبناء القبة عام 1033م بعد وقوع زلزال كبير دمر المسجد الأقصى وقام الأمير ليث الدولة نوشيكين الغوري عام 1041م بعمل مقام شمال دكة الصخرة([14]) .
شهدت القدس الفاطمية النهضة العلمية والطبية فأنشئت دار العلم الفاطمية التي أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمي والبيمارستان الفاطمي في القدس ، كذلك قام الفاطميين بإعمار القدس فقد بنوا أسوار القدس وتحصيناتها مرتين في زمن الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله وزمن الخليفة المستنصر بالله.
السلاجقة :
كانت فترة حكم السلاجقة والتركمان فترة قصيرة ومضطربة لبيت المقدس وقد انبعث خلال هذه الفترة القصيرة النشاط العلمي علي أساس المذهب السني الشافعي ، وكان المسجد الأقصى يغص بالعلماء من فقهاء العالم الإسلامي وكثرت المناظرات العلمية التي تدور بين علماء المسلمين واليهود والنصارى، وكانت هذه الفترة القصيرة خفقة من خفقان القلب بل الخفقة الأخيرة في القدس الإسلامية قبل وقوعها تحت براثن الاحتلال الصليبي حيث ذبح الصليبيين سكان القدس وقضوا علي المعالم الإسلامية فيها وبذلك انتهت الفترة الأولي من تاريخ القدس الإسلامي التي دامت حوالي 500 عام ([15]) .
الاحتلال الصليبي 1091 - 1187م :
سقطت القدس بيد الصليبيين سنة 1099م وقام الصليبيين بارتكاب اكبر مجزرة شهدها التاريخ فقتلوا جميع سكان القدس ذبحاً وحوَّلوا منطقة الحرم إلي منطقة مسيحية حيث أقيمت فيها الكنائس والمساكن للفرسان واصطبلات الخيل .
لم تر القدس ولا العالم الإسلامي مصيبة أعظم من هذه المصيبة لهذا استنجد أهالي الشام بالخليفة العباسي الذي استنجد بسلاطين السلاجقة الذين لم يفعلوا شيئاً حيث كان انشغال سلاطين السلاجقة بالصراعات الناشبة فيما بينهم شاغلهم الأهم .
كان انشغال سلاطين السلاجقة في الخلافات فيما بينهم التوقيت والفرصة المناسبة التي استغلها الصليبيين في الهجوم على الشرق ، فالخلافات بين سلاطين السلاجقة أنفسهم قد أضعفتهم كثيراً وما بالك الخلافات بين سلاطين السلاجقة والخلفاء الفاطميين وتنازعهم المستمر علي بلاد الشام كل هذا سهَّل على الصليبين احتلال القدس وأجزاء كبيرة من بلاد الشام ورغم هذا ظل سلاطين السلاجقة والخلفاء الفاطميين في صراع ومعارك حتى احتلال أنطاكية وقتل أهلها من السلاجقة والأتراك حيث وجد الفاطميين في سقوط أنطاكية فرصة سانحة لمحاربة السلاجقة وأتباعهم واسترداد بيت المقدس من يد السلاجقة ، فحاصر الجيش الفاطمي القدس ونصب المنجنيق حولها .
دام حصار القدس أكثر من 40 يوم والصليبيين علي الأبواب وفي عقر الدار و كان من الأمر البديهي علي الخلفاء الفاطميين والسلاطين السلاجقة الاتحاد والتضامن ضد الخطر الصليبي المشترك عليهم وعلى الأمة الإسلامية ([16]) .
بعد بضع عشرات السنين جاء عماد الدين زنكي الذي تصدى للصليبيين بجد فقد عمل على توحيد الصفوف ضد الصليبيين واستطاع استرداد الرها من الصليبين مرتين وكذلك ضم دمشق إلى إمارة حلب لتوحيد الصفوف ضد الصليبيين وأرسل نور الدين أسد الدين شريكوه إلى مصر لمساعدة الخليفة الفاطمي في حربه مع الصليبين وكان معه من حُسن تدابير القدر صلاح الدين ابن أخيه الذي عمل على قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت لواءه .
لقد أكمل صلاح الدين المشوار الذي بدأه نور الدين من قتال الصليبيين وعمل على توحيد الصفوف ضدهم وكان استرداد القدس الهدف السامي لكل من صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي.
كان نور الدين زنكي على ثقة تامة بالله باسترجاع القدس فأمر بصنع منبر في حلب للمسجد الأقصى .
تم ما حلم به وخطط له نور الدين زنكي من تحرير القدس فقد حُررت القدس على يد صلاح الدين الذي وضع منبر نور الدين زنكي في المسجد الأقصى بعد عشرين عاماً من صنعه
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/