الوظيفة
الاجتماعية للفتوى
أحمد
أبورتيمة- كاتب من غزة
abu-rtema@Hotmail.com
رسالة الإسلام الأساسية هي إصلاح الحياة البشرية
و"ليقوم الناس بالقسط"، والأنبياء لم يأتوا ليناقشوا الناس في مسائل
جدلية منفصلة عن واقع حياتهم، بل طرحوا قضايا ذات صلة وثيقة بواقعهم المعاش، فشعيب
عليه السلام جاء برسالة الإصلاح الاقتصادي أن أوفوا الكيل ولا تبخسوا الناس
أشياءهم، ولوط عليه السلام جاء بالدعوة إلى الاستقامة الخلقية، وموسى عليه السلام
جاء بهدف تحرير بني إسرائيل من طغيان فرعون "أن أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم"،
وهكذا فإن لكل نبي قضيته الاجتماعية التي يدعو إلى التوحيد من خلالها وتكون محور
طرحه الديني.
الدرس الذي نستفيده من هذه الأمثلة القرآنية أن من يتصدر
لدعوة الناس ينبغي أن يكون حديثه نابعاً من واقعهم ومراعياً لأحوالهم وعارفاً
بالأولويات لإصلاحهم، لا أن يكون منفصلاً عن مشكلات مجتمعه مستغرقاً في مناقشة
قضايا نظرية جدلية لا تفيد معرفتها، ولا يضر الجهل بها.
ما دام المقصد الأعلى هو الإصلاح الاجتماعي فإن المهم هو
إرشاد الناس وتوجيههم بما يتوافق مع المقاصد العليا للإسلام، لكن بعض الناس من سوء
فقههم بالدين يظنون أن التدين هو الجدال في النصوص، فيكثرون من القيل والقال
والسؤال ويريدون إجابات قطعية نهائية هل هذا حلال أم حرام، والفتوى لا تؤخذ دائماً
بحدية نعم أو لا، بل العبرة فيما يبنى عليها من عمل وفي تأثيرها الاجتماعي بما
يحقق المقاصد الكبرى للشريعة من عدل وحكمة ورحمة وصلاح.
ولنا في قصة ابن عباس برهان حيث رُوي عنه رضي الله عنه أن
رجلاً سأله عن توبة القاتل فقال: (لا توبة له) وسأله آخر فقال: (له توبة) ثم قال:
"أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته, وأما الثاني فجاء مستكيناً قد
قتل فلم أقنطه".
وكما نرى فإن فتوى ابن عباس لم تحكمها النصوص وحدها، وإلا لكانت الإجابة واحدة في كلا الحالتين لأن السؤال
واحد، ولكن حبر الأمة رضي الله عنه نظر ما هو الأثر الاجتماعي للفتوى فلو أنه أجاب
الأول بنفس جواب الثاني لتسبب في جريمة قتل جديدة، إذاً لخرج الأمر من الحكمة إلى
العبثية حتى وإن كان هناك مسوغ في النصوص، وقد كتب الإمام ابن القيم فائدةً عظيمةًً
في كتابه (إعلام الموقعين) حيث قال إن كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن
الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من
الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل ".
وهناك قول بجواز الأخذ بالرأي المرجوح وهو الرأي
القائم على أدلة ضعيفة، وترك الرأي الراجح وهو القائم على أدلة قوية إذا كان في
الأخذ بالمرجوح مصلحة معتبرة شرعاً، كأن يكون في الرأي المرجوح مثلاً جمع لكلمة
المسلمين، ومنع للفتنة والاختلاف بينهم. ولا نقصد بالمصلحة المعتبرة ما كان دافعه
الهوى.
ولما فهم الأئمة الأوائل هذه الوظيفة الاجتماعية الإصلاحية للفتوى
لم يعد تركيزهم على القطع في المسائل، فالمهم هو الدعوة والإرشاد والتقريب، وما
أروع فقه الإمام مالك رحمه الله حيث يروى عنه أنه لم يكن يقطع بكلمة حرام وكان قصارى قوله في المسألة الممنوعة
شرعاً: أكره هذا ، لا أحب هذا.
ولما كانت وظيفة الفتوى هي معالجة قضايا الناس الواقعية فقد
كره العلماء التوسع في افتراض المسائل قبل وقوعها واعتبروه من التكلف المخالف
لجوهر الإسلام، وأطلقوا على من يكثر من الأسئلة الافتراضية تسمية
"الأرأيتيين" لأنهم يكثرون من قول "أرأيت لو كان كذا؟"،
"أرأيت لو حدث كذا؟".
وإذا استعرنا من المفكر الجزائري مالك بن نبي تصنيفاته في
معالجة مشكلة الأفكار حول الأفكار الصادقة والأفكار الفعالة بمعنى أنه ليس كل فكرة
صادقة هي فعالة بالضرورة، فإننا بنفس المنطق نقول إنه لا يكفي أن تكون الفتوى
صحيحةً ولكن أن تكون فعالةً أي ذات أثر اجتماعي وحضاري يساهم في نهضة الأمة ويستفز
طاقاتها للعمل والإنتاج.
والإنسان العاقل يكفيه أن يعرف أن عملاً ما متوافق مع
المقاصد العليا للشريعة وأنه يساهم في إصلاح الحياة وإعمار الأرض فيسارع إليه دون
جدل أو تردد وحتى دون البحث عن نصوص، أما الجاهل فيكثر سؤاله ويقل عمله كحال بني إسرائيل في ذبح البقرة.
غياب هذا الفقه الواسع من حياتنا أنتج الفتوى الكارثية
بإجازة إرضاع الكبير وهي الفتوى التي جلبت السخرية للمسلمين وجعلتهم فتنةً للذين
كفروا، ومثل هذه المسألة ما كان ينبغي أن تناقش بالنصوص أصلاً، ولكن بخطورتها
الاجتماعية، وهي ليست إلا عينةً ممثلةً لحالة من الجمود وغياب الفقه.
ما أحوجنا إلى فقه راشد في حياتنا...
والله أعلى وأعلم...
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/