كأن ليس هناك أحد
علي شكشك
مسيرة طويلة هي مسيرة الفلسطيني, لم تبدأ فقط عام النكبة, فقد كان ذلك العام نقطة الذروة في المنحنى للسنوات التي سبقته, وكان فقط التجسيد المادي العملي لتفاعلات المضمر السابق من نوايا ومقاصد مع الترتيب والتدبير والتخطيط وموجات الهجرة الصهيونية, وكان حاصلاً لنتائج الحربين العالميتين اللتين لم تكونا غائبتين عن تصورٍ يُرسَمُ لهذه المنطقة وهذه الجغرافيا وهذا الشعب, وفي الوقت الذي كان يتقاسم فيه المنتصرون في الحرب المناطق التي هزموا فيها العثمانيين كان السيناريو البعيد يضع في مخيلته نهايات المشروع بإعلان دولة لليهود, الأمر الذي تجلى بوعد النكبة الشهير بوعد بلفور, والذي تم إعلانه على الملأ وكأن لا أحد هناك في الطرف الآخر, من هنا بدأت النكبة, بل هنا كانت في الحقيقة ذروة النكبة, ذروة النكبة على المستوى الموضوعي وعلى مستوى فارق القوة وامتلاك زمام القدرة والتدبير, وكان كل الباقي هو فقط كيفية بلورة المشروع الصهيوني وإنجازه,
كأنه لم يكن أحدٌ هناك, إعلان عام في الهواء الطلق, بإنشاء دولةٍ لبشرٍ مستورَدين أو سيتمُّ استيرادهم فيما بعد, وهي خطوة تقتضي تغيير الخريطة, وتغيير الثقافة وتغيير و تزوير التاريخ, وإعادة رسم الحدود, وتقسيم الغنائم وهدم مفاهيم وبناء جامعة عبرية يُدعى لها كتاب عرب, كأن ليس هناك أحد,
بل إن الأمر سيدعونا لإعادة رؤية الأشياء بأثرٍ رجعي والتمحيص في شارد التاريخ ووارده, فكيف يمكن قراءة وعد نابليون لليهود بوطن لهم في فلسطين في نهاية القرن الثامن عشر, كيف يمكن قراءة ذلك إلا بأنه تَصرَّفَ كأن لم يكن هناك أحد,
بل وقبل ذلك, ربما كانت بذور النكبة كامنةً في حركة التجديد البروتستانتي عندما كان أحدُ أهمِّ مرتكزاتها الفكرية والدينية هي فكرة وطن لليهود في فلسطين, وقد كانت الحركة تتفاعل وتتداعى دون ردود أفعال حتى على المستوى النظري كأن لم يكن هناك أحد,
وقد استمر اليهود في تصدير المهاجرين وتهريب السلاح والتدريب وبناء الموشافات والكيبوتسات, أمام أعين العرب والمسلمين, حتى كان التتويج النهائي للنكبة عام ثمانية وأربعين, التي لم تكن حينئذٍ إلا الاستحقاق البديهي للفترة الطويلة التي لم يكن فيها أحد,
لكن لا شكّ أنها فترة بذلوا فيها جهوداً جبارة, والتقت مصالح متشابكة غربية وصهيونية واقتصادية ودينية وسياسية, وعزفوا فيها على أوتارنا وأعملوا فينا تمثيلا وخداعاً ووعوداً وتدبيراً, وراوغونا كثيراً, وما يزالون,
ما يزالون يستثمرون خلافاتنا, بل يُذكونها ويخترعونها, ويستمرئون فتحَ شهيتنا على ما يريدون, ويَعِدوننا بما لا يُوفون, ويخوضون بنا حروبنا, ويستميلون جوانبنا ضد جوانبنا ويَستعْدون, ويستوطنون كما يشاؤون, ويصولون فينا ويجولون, ويهدمون ويَطردون ويُرحِّلون, ويُقرّرون مَن مِنّا يتزوجُ مَن مِنّا, ومن منا يقيمُ أين فينا, ومن يمرُّ ومن لا يمر, ومن يصلّي ومن لا يصلي, ويبنون كُنُسَهم في عيوننا, ويحاصرون طريق التجلّي, ويملأون طريق الآلام بالآلام, وينهبون الماء ويمنعون الكلأ والنار, ويصادرون دفاتر الأطفال, ويرحبون بالسلام, ويستهترون بقرارات لاهاي, ويحاصرون المنابع من الفرات إلى النيل, ويطالبون العرب بحقوق "اليهود اللاجئين ", واستيعاب الفلسطينيين, فالدولة لا تتسع إلا لليهود, والنكبة مستمرة كلّ حين, وهي تتويجٌ لنا, وهي تلخيصُ أمرنا, وخلاصةُ رِيحِنا, مثلما كان من ذلك التاريخ حالُنا, إنهم يستخفون بنا, فكأنّنا لسنا هنا, وكأن ليس هناك أحد.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/