تمامُ الكلام
علي شكشك
هل
يكفي التحليل والتعليق على مسلسلات القرارات والإجراءات التي يرتكبها
عدونا بحقنا, وهل يُشفَى غليلُنا وتستقرُّ روحُنا لمجرد فضح نواياه وكشف
بواعثه وخططه وتسليط الضوء على أهدافه ومراميه, دون أن يعني ذلك التقليلَ
من شأن هذا الجهد العظيم وضرورته وحيويته ودوره الفعال ولزومه الأكيد
سلماً وحرباً في مسيرة الإنسان, فالكلمة والوعي هما ما يُميّزان الإنسان
وهما من سمات التكريم بل هما شرط التكليف وميزان التشريف, وأداة التعبير
والتواصل والتوصيل, ولقد كانت الكلمةُ رسالةَ الله إلى عباده وكانت "ألف
لام ميم" مُفتَتَحَ القرآنِ الكريم, وقد حملتْ الكلماتُ كمالَ المرادِ من
العباد في كدحهم الوافي من الميلاد حتى لقاءِ المعاد, واستوعبتْ فِكرَه
وسلوكَه ونهجَه وطريقَه, وفي البدء كانت الكلمة, وما أمرُه إلا "كُنْ",
وقد علّمَ اللهُ آدمَ الأسماء, ولقد "ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات",
فكلَّ
حينٍ هناك قرار, قرارٌ شفويٌّ أو مكتوب, أو قرارُ فعلٍ يمارسه جنديٌّ أو
مستوطنٌ أو جرافةٌ أو بندقية أو حاجز, أو قرارُ هدمٍ أو استيلاء أو سجن أو
إبعاد أو بناء كنيس أو إغلاق معبر أو إغلاق منطقةٍ بأكملها أو منعٍ من
السفر, أو قرار شنّ حرب أو اجتياح أو اغتيال أو اعتقال أو اقتحام أو
"زيارة" للأقصى أو اقتسام الحرم الإبراهيمي أو بيع أملاك الغائبين ومنع
عودة اللاجئين,
كلَّ يومٍ هناك قرار, لن يكون آخرها قرار طرد جزءٍ من الفلسطينيين من جزءٍ من فلسطين, واعتبارهم متسللين أو مخالفين,
وبعيداً
عن الدوافع والأهداف التي تكمن وراء هذا القرار, وهي كثيرةٌ بلا شكّ, وهي
تُجْمِلُ كلَّ غايات ومقاصد الحركة الصهيونية, وهي نائية ودانية, وهي
بعيدة ومرحلية, لكنها تقصدُ فيما تقصدُ ما يقصدُ الشيطان, إلى شيطنة
الإنسان, وهي الجهةُ التي أصدرت القرار والتي تعرف قبل غيرها أنها هي التي
جاءت متسلِّلةً إلى فلسطين, متسللة وغاصبة ومستترةً بغفلتنا وغفلة الزمان,
وفي ثغرات وضباب الحروب وتحت جلباب الانتداب, حين كان قناصلُ بعض الدول
الكبرى في فلسطين يحملون أكوامَ جوازات سفرٍ أجنبية جاهزةٍ إلا من الصور
والأسماء, ويقابلونهم في عرض البحر قبل وصولهم إلى موانئ فلسطين,
ويُزوِّرونها لهم ليدخلوا إلى الأرض التي حرّمَ الله عليهم أن يدخلوها,
وكأنّ صبغة الجريمة تَشرَبُهم, ويريدون عبثاً إزاحتها عنهم في إسقاطٍ
نفسيٍّ ينضَحُ من وجوههم لو تصفحتموها جيداً وهم لا ينظرون, أو وهُم
يحاولون أن يبتسموا بتلقائيةٍ, فتصفعهم تلقائية الخلق الكاشفة, إذ
"الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره", ذلك أنّ نفوسَهم تُطاردُهم
ويهربون منها بالعناد إلى الإيغال فيها, فلربما استيقظوا يوماً ليجدوا
أنهم كانوا يحلمون وأنّه لا تاريخ على الأرض إلا ما يظنون, وأنّ الأرضَ
مزدحمةٌ بآثارهم وناطقةٌ بتراثهم وأن الحفرياتِ تناديهم وتمجّدُهم وأنه لا
يوجدُ عربٌ ولا مسلمون ولا مسيحيون ولا كنعانيون ولا فلسطينيون, وأنّ
الأمرَ لم يكن إلا حلماً مزعجاً استيقظوا منه, ولو كلّفَ تحقيق ذلك الأمر
الحلم استخدام السلاح النهائي, الكذب والقنبلة النووية, فليكن إذن أنّ
الفلسطينيين متسللون, لعلّها وصفةٌ لعلاج أنفسهم مما هم فيه, أو لعلها
ميلُ الشيطان لشيطنة الإنسان,
فليذهب
المتسللون إلى الجهات التي جاؤوا منها متسللين ومغتصِبين ومزوّرين من ما
وراء الآثار والكيد والعجل والخطيئة, ليخرجوا من الكلمات التي لفقوها في
الكتاب وتسللوا معها إلى التراث بقصد صَلب الزمان ونفي الفلسطينيين,
أما
اللاجئون الفلسطينيون في كلّ الوطن وكل الشتات فليرحلوا إلى متن المكان
وصحيح الكلام حيث لا إسرائيليات في النَّصّ ولا تسلّلَ ولا تحريف, ولا حذف
ولا انتقاص, ولا جدار في الروح يأسِرُ الوعيَ والرؤية والقرار,
فقد
كان القرارُ الأوّلُ قبل أيّ قرار, وقبل إعلانهم الأول عنهم, هو قرار
أسْرِ الفلسطينيِّ الذي يُنفَّذُ بألفِ طريقة وطريقة, بأيديهم وأيديهم, إذ
أنَّ شرط مرور أيّ قرار لاحقٍ لهم سيكون عجزَ الفلسطيني وأسْرَه وتكبيلَه
ومنعَه من القدرة على القدرة والقرار, وقد كان كلُّ ما كان منذ ذلك
الزمان, من زمان بيكو والانتداب وما تلاهما من أحداث, بهدف إحكام هذا
الأسر وإطباق العجز, ليُصبح هدفُ العالم محاصرةَ الفلسطيني وأسرَه بكلِّ
خيوط ألوان الطيف والأشعة غير المرئية والقوانين الدولية وابتداع المفردات
في القانون والإعلام وإعادة تعريف المصطلحات وتغيير قوانين التجنس,
وامتدّت لمراكز البحث والجامعات لحصار التاريخ وأسْرِ الوعي والأمل
والوجدان, شعبٌ بأكمله في الأسْر ووطن كامل, وما كان لهم ولا لقرارهم أن
يكونوا لولا ذاك,
وبقدر
طاقة الحرية التي تنبجس في الروح يكون حجمُ السلاسل, ولهذا كان أسرانا
داخلَ سجونِ سجنِ الداخل هم أكثرنا تجاوزاً للجدران وتجاوزاً للحالة, وهم
الذين توغلوا إلى متن الوطن وأتمُّوه, ولقد "ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ
فأتمّهنّ", ولقد أنجزَ أسرانا حريتهم وأتمّوا الكلمات.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/