صحافي
يروي صراعه مع المرض (1 من 5)
حين
اقتحمت حنجرتي ملايين الخلايا السرطانية وأنا لا أدري لندن
- كمال قبيسي
بعد ظهر
أحد أيام سبتمبر (أيلول) الماضي، كنت في البيت أقف عند نافذة الصالون لأدخن
سيجارة أنفث دخانها الى الخارج، متحدثاً في الوقت نفسه الى ابنتي، وحيدة
العائلة، فسألتها: "ما رأيك لو نطلب طعاماً من المطعم الياباني؟".
كان نصف هذا السؤال مسموعاً لي ولها. أما نصفه الآخر فكان مرفقاً ببحة طرأت
فجأة على صوتي وسط العبارة، هكذا من دون أي سبب، فاستغربتها وأعدت السؤال،
لكنها استمرت.
ولأن الثقافة الصحية تنقصني، كمعظم الناس العاديين تقريباً، فقد ظننتها
طبيعية كأي بحة، لذلك أهملتها آملاً أن تزول بعد أسبوع على الأكثر. لكنها
طالت شهراً، واضطرتني بأواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي الى زيارة طبيب
العائلة، وهو الذي لم أزره سوى مرة أو مرتين ولأمر طبيعي وفضولي أكثر مما
هو صحي طوال 15 سنة من وجودي في لندن، فوصف لي دواء لالتهابات الحنجرة
وقال: "إذا لم تتحسن فعليك القيام بما نسميه "بايوبسي" في المستشفى" فسألته
عن معناها، وشرح أنها قيام جراح بأخذ عينة من الحنجرة ليتعرف عبر فحصها
بالمختبر الى سبب البحة، فقد يكون ورماً.. بعدها عرفت أن "بايوبسي" تعني
"خزعة" بالعربية.
|
قتلاه بالعام أكثر من نصف ضحايا الحرب العالية الأولى شعرت حين قال إن السبب قد يكون ورماً بأن الأمر جدي وحساس، فأسرعت الى الكمبيوتر لأقرأ بالعربية عن البحة وأسبابها وعن أورام الحنجرة، فتعبت وما عثرت على ما يلبي الفضول، سوى فقرات من هنا وهناك وموضوعات متكررة وغير مترابطة وتبث فيك القلق من دون سبب طبي حقيقي، بل إن مئات الموضوعات والدراسات المختصة بالبحة في الانترنت لا تذكر أنها قد تكون من أهم الأعراض المشيرة الى أن الحبال الصوتية تبرعم فيها السرطان، مع أنه الارهابي الأول في هذا العالم، اذ يستوطن سنوياً في 12 مليون انسان، ويفتك بحوالي 8 ملايين، أي أكثر من نصف قتلى الحرب العالمية الأولى في 4 سنوات.
قرأت في الانترنت أشياء مضحكة حقيقة، وبعضها لأطباء مختصين بالحنجرة وأمراضها في المنطقة العربية، كقول أحدهم إن مضاعفات العلاج الاشعاعي لسرطان الحنجرة تنتهي بانتهاء العلاج، في حين أنها تستفحل وتتأصل بعده مباشرة، بل تتصف بالفظاعة وبلؤم نادر فتجعل من ضحيتها "مزبلة نفايات" بكل ما يعنيه هذا التعبير.
قرأت لمختصين كثيرين أيضاً أن القيح هو من المضاعفات، وهذا صحيح، ولكن لم يزد أي منهم ولا أي كلمة عن هذا القيح المعروف باسم "العمل" في التعابير الشعبية.. لا تقرأ لماذا ولا أين يحدث في الجسم، كما لا تقرأ أي شيء عن المضاعفات سوى تردادها بطريقة لا تفيد.
وقرأت بالانجليزية أيضاً وبغيرها، فوجدت محتوياتها أفضل بكثير مما في العربية، لكنها كانت طبية بحتة وناقصة الشرح المبسط المفيد للقلقين من الناس العاديين، فتابعت السعي وراء المعلومات ما استطعت، ولكن من دون جدوى دائماً، لذلك عانيت حقيقة، وأنصح من يشعر بأي قلق سرطاني بالحنجرة وما جاورها أن لا يعتمد على الكتب ولا على ما يقرأ في الانترنت وغيرها، وفي مقدمتها ما أكتبه في هذه الحلقات، بل يمضي الى طبيب مختص وماهر يدرس حالته بدقة، ثم ينظم له العلاج المناسب، لكي ينجح معه العلاج كما نجح معي الى الآن.
قرأت 8 كتب، أحدها من 650 صفحة وعلى رأس قائمة المبيعات الانجليزية، ومعه قرأت عشرات الكتيبات من جمعيات مكافحة السرطان، ومثلها من المقالات والتحقيقات والدراسات بلغات عدة على الانترنت، الى جانب أسئلة بالعشرات طرحتها على الأطباء وغيرهم، ما جعلني أصاب بالغرور لشعوري بأني أصبحت متخصصاً بسرطان الحبال الصوتية وعلاجه الاشعاعي لكثرة ما قرأت وسألت، الى درجة أن باستطاعتي تأليف ما تحتاجه المكتبات العربية المفتقرة الى كتاب عن مرض استوطنت خلاياه المتسرطنة بالملايين في حنجرتي بعد أن اقتحمتها متسللة اليها كالعصابات طوال أكثر من 16 شهراً من دون أن أدري، حتى فاجأتني بحة في الصوت لتعلمني بأن حنجرتي، وهي بعرض وطول 5 سنتيمترات تقريباً، كانت ساحة قتال شرس بين ملايين الخلايا المتسرطنة ونظيرتها الصحية، ومن دون أن أشعر بشيء على الإطلاق، بل كنت آخر من يعلم.
وحاولت وأنا أعاني من غموض المعلومات عن سرطان الحبال الصوتية أن أكتم ما حدث عن الآخرين لأنها نكبة شخصية مؤلمة ولها امتدادات، متسائلاً في الوقت نفسه عما يدفع بالصحافي لأن ينسى نفسه حين يتحول هو بالذات الى خبر فيستمر بالكتابة عن الأحداث والناس من دون أن يكتب ولو كلمة شخصية عن جديد طرأ على حياته، خصوصاً اذا كان الطارئ أهم ما فيها على الاطلاق؟
قد يكون السبب هو أن الكتابة عن الآخرين هي من متطلبات مهنته التي يمارسها يومياً، وهو ما استدركه مدير عام "العربية" الزميل الأول عبدالرحمن الراشد، فهو مع معرفته بأني تحايلت طوال 5 أشهر على الآخرين، من أقارب وأصدقاء ومعارف، كي لا يتسرب خبر ما حل بي الى أي منهم، باستثنائه هو وأفراد عائلتي، فإنه وجدها فرصة ليجعلني أستخرج من الهزائم انتصارات، وليفيد القراء باقتراح قاله لي حين التقينا في لندن قبل أسبوع: "ليتك تكتب 4 أو 5 حلقات عن إصابتك بالمرض وصراعك معه، وليكن بأسلوب شخصي إذا أردت".
ولأنه قال "بأسلوب شخصي" فقد شعرت بأنه ربما عانى بدوره مما عانيت حين أراد الإلمام بمعلومات عن المرض بعد أن أخبرته بأنه تمكن مني، وهو أنك اذا أردت التعرف مثلاً الى سرطان الحنجرة وعلاجه الاشعاعي النووي عبر البحث في الكتب أو في ما تعثر عليه من موضوعات ودراسات في الانترنت، فستتعب ويخيب ظنك الى حد كبير، لأنك لن تعثر سوى على معميات حول نوع من السرطان لن أتحدث الا عنه وعن علاجه الاشعاعي، باعتباري أصبت به وألممت بمعلومات وافية وشاملة عنه وعن علاجه وأسبابه وأعراضه ومضاعفاته الأسوأ من أي مضاعفات.
لن تجد مثلاً أي موضوع مبسط عن هذا السرطان، ولا أي تحقيق لصحافي واجه المرض في الحبال الصوتية، كزميل أعرف أنه أصيب به قبل 5 سنوات لكنه لم يكتب كلمة. لن تقرأ لأحد كتب شيئاً شخصياً حول الموضوع ليفيد به الآخرين. ستجد أن ما بحثت عنه مكتوب بطريقة يحتاج الواحد منا للدخول ثانية الى الجامعة ليفهمه، فيضيع وقتك من دون أن تخرج بصيد ثمين، وينقلب اليك البصر بعد التكرار "خاسئاً وهو حسير"، وفق التعبير الرائع في التنزيل القرآني الكريم.
وما سأرويه في 5 حلقات يختلف شيئاً ما عن طريقة الكتابة التقليدية للأخبار أو التحقيقات، لأن الغاية هي تبسيط المعقد عن مرض ليس بالهين وخطير، الا اذا تم اكتشافه مبكراً، وكله بأسلوب شخصي سأروي عبره ما عاينته وعرفته، وكاشفاً في الوقت نفسه للأقارب والأصدقاء والمعارف سراً مؤلماً أخفيته عنهم بنجاح كامل طوال 5 أشهر، وملبياً طلب الزميل الأول عبدالرحمن الراشد.. ومن يستطيع أن يرفض طلباً لمحترف مثله أصبح "عقدة" الإعلاميين والصحافيين في المنطقة العربية؟
إنها عبارة أنهي بها هذه الحلقة التمهيدية الأولى عن سرطان أمسك بي من العنق، متمنياً على الزميل الأول أن لا يقوم بحذفها أو تعديلها، كي لا تبقى حبة حصى في الحلق مؤلمة. |
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/