مسرحية قصص وبقايا وطن وصوتنا المتعب وفضائنا القليل
كتبت: منال خميس*
عندما
وجهت لي دعوة لحضور مسرحية 'قصص وبقايا وطن' التي ستعرضها فرقة 'مسافات'
في اطار فعاليات اسبوع مهرجان فلسطين المسرحي ،وأنتجتها ضمن فعاليات القدس
عاصمة الثقافة العربية(2009) ، لم يخطر ببالي حين قرأت العنوان ان ما
سيعرض سيكون مختلفاً عما نشاهده في تغطيات الفضائيات الاخبارية والوثائقية
، على أساس أننا نمتلك اكثر الأوطان استباحة وقصصه هي السلع المستهلكة
والمنتهكة محليا وعربيا وعالميا مع اختلاف وتلون شاشات العرض ، وقال
حينها صوت في رأسي: ماذا تبقى من الوطن ليعرضونه ؟.
وتبدل
رأيي أثناء حضوري العرض، فصحيح انها ليست المرة الاولى التي يتم فيها طرح
قصصنا السابقة واللاحقة والعالقة ، ولكن ليس بهذه الرؤيا المفتوحة التي
قدمتها 'مسافات' فقد قالت لنا باختصار،أن فضاءكم قليل ، ثمة امر واقع
وأنتم مزيج من نكبات تقدم وجبات فاخرة لاصحاب المصالح..هذا هو صوتكم
المتعب. هذه هي غزتكم.. ع المكشوف. هيك (خبط لزق) قذفت المسرحية كل شيء في
وجوهنا .
المسرحية
،عبارة عن لوحات متلونة، مختلفة يصلها خط درامي واحد ،يلملمها لتحكي
بسخرية قصة الوجع في غزة : الحصار ،الانقسام، البطالة، مشاكل الحياة
اليومية ،الأسرى، الذكرى،ضياع الشباب،الحزن،الألم،اليأس، تحكي عن فتاة
بلجيكية من اصل فلسطيني وصلت الى غزة عبر احد الانفاق ،يستقبلها شاب غزي
،يفشله الواقع في كل شيء وعمل في كل شيء ليستمر بالحياة، تعيش في بيته مع
العائلة هو يريد مغادرة القطاع فيسعى للزواج منها كوسيلة للخلاص وهي تريد
البقاء في غزة فتسعى للزواج منه ولكن في النهاية تفشل قصتهما .
وعلى
مدار ساعة وثلث الساعة من الضحك الاسود المتواصل المنزوع من رحم الوجع
،استطاعت 'مسافات' بعيدا عن الشعارات والولولة والندب الطويل أن تقدم لنا
وجبة مسرحية ، خفيفة على القلب، خالية من البكائيات المقصودة التي اعتدنا
رؤيتها في جميع وسائط عرض نكباتنا المتتابعة وعرضت بسخرية الواقع بمجموع
تناقضاته واصطفافاته :' 'كل غزة علّامة ... كلياتهم مثقفين ... وليك إحنا
... مش عارف شو أقولك ... الله أكبر على هيك شعب. حصوة في عين اللي شافنا
و لا صلاش على النبي ... عين اللي ما يصيبنا اتفسقلنا. كلنا بنفهم بكل اشي
و بنفتي بكل اشي ... بالفن فننجية ...بالسياسة سيسنجيه ... بالثقافة
ثقفنجية ... بعدين إحنا الشعب كلنا قلوبنا على بعض ..كلنا قبل ما نام
بنبوس بعض ... كل واحد بروح على جاره و ببوسه و بنام '. هذه اللوحة جاءت
على لسان الراوي 'مفيد' لتلملم مع اللوحات الاخرى بقية العرض .
للوهلة
الأولى، قد يبدو العرض كوميدياً، لكنه في حقيقة الأمر شديد السواد وقهقهات
الجمهور كانت احيانا تغطي على العرض ،خصوصا حين تطرقت المسرحية لتوابع
الانقسام والدولار والسولار .. قال الرجل الجالس خلفي لمرافقه ' الناس مش
هيه..بتضحك بجنون.. اشك انه احنا الآن في غزة ' ، الصوت في رأسي قال
له:مسكين انت، ان انزياح الخارج ، لا يعني الانعتاق، تضحك وتضحك وتضحك
وانت تدرك تماما مأساتك في عدم القدرة على اجتياز الألم،جميعنا يتبع طريقه
بخطى حثيثة الى المسالخ ذاتها هذه هي غزة ببالغ وقاحتها ، تجتاز موجة تلو
اخرى تعتقد انها الاخيرة فتأتيك موجات بعدها .اذن المشكلة ليست في
العنوان(بقايا وطن) هي مشكلة فهم لكيفية استنطاق مفاهيم اساسية كالحق
والاحترام والاختلاف والحوار والغطرسة حين الاصغاء للآخر.
كل
الاحداث في المسرحية تقول:في غزة كل شيء مظلم وانت وحدك بأوجاعك تضيء!!لا
احد مسئول عن وجعك ، عالج جرحك المنسي وحدك، فـلكل منا )سجنه الخاص( هذا
ما قاله رامي احد ابطال المسرحية
لكل منا سجنه الخاص) وهذا ما توصلت
اليه ايضا 'جولييت' ' الوطن صار سجن.. والفكرة سجن.. والمعرفة سجن.. وكل
واحد حابس نفسه في نفسه.. معاك حق يا رامي.. لكل واحد سجنه.. هالقيت بديت
أفهم. الروح طير.. طير محبوس في الجسد. بتقدرش تسافر.. بتقدرش تغرد..'
ومع
كل مقطع في المسرحية كان الصوت في رأسي يكرر : الكل لص. يسرق منا ما يشاء
وقتما يشاء ، و الوقت، لا يكِلّ ولا يمَلّ ولا يموت فهل يمكن للانسان ان
يكمل حياته برأس محني والمطارق تدق فوقه؟
ولم
يمنع تعداد الرواي لمجمل نكباتنا الفلسطينية من سيطرة روح المكان
والزمان، وروح غزة على المسرحية فكان العد سيرا وعبورا باتجاه ملامح
نكباتنا دون ترتيب لانها تندغم ببعضها لتشكل في النهاية، ملمحاً واحداً
حاداً ووقحاً حد الصفاقة . ' مره كان واحد كبير الا هو صار زغير .. مره
وحده كانت بدها تيجي الا هي راحت .. مره كان واحد الا هو صاراتنين ... مره
واحد .. اتنين .. تمنيه واربعين .. سته وخمسين .. سبعه وستين .. تسعه
وسبعين .. تنين وتمنين .. الفين .. الفين واتين .. وسته .. وتسعه
..وتمنتعش.. وخمسه وعشرين .. هيييييه '.
وحين
يكون لديك فكر مسبق ، لا تستطيع ان تمنع نفسك من مقارنة ما يعرض امامك وما
تختزنه ذاكرتك الجماعية من واقع ، وفي المسرحية ، ظهر التكافؤ في صراع
الاضداد في تاريخنا ، ظهر في أوجاع الناس المسحوقين برحى هذا الصراع ورحى
هذه الاضداد ، قال الصوت في رأسي' في الوقت الذي نعتقد ان البعض يقودنا
للخلاص هو في الواقع يقودنا للخلاص علينا ، وتتوالى النكبات ، وتنتهي
الحرب تلو الحرب ، وتنسحب الويلات الى اعماقنا .. تبقى الآلام هي الحاضرة
، تتحكم في حياتنا ،وطيف من رحلوا وغابوا لا يفارقنا، واصوات العالم
تطالبنا بالصمود والتحدي وتعد بالنصر عاجلا ام اجلا ... لكن فقط علينا
تدبر حياتنا المؤقتة بطريقتنا الى حين تحقيق هذا النصر المبين المنتظر
الذي لم ولن يأتي الى يوم القيامة' .
في
المسرح نكتشف انسانيتنا المنتهكة والجمهور الذي اوشك على البكاء من شدة
الضحك ، كان يعبر عن اعجابه بالعرض بالتصفيق بين فينة وأخرى فقد استطاعت
المسرحية ان تخرجه من صمته المقهور ليدخل عالم ضحكات مجلجلة ،وفي الوقت
الذي كان فيه الفنان رامي السالمي يقول بألم كبير وهو يؤدي دور 'الجد' '
الناس مش هي الناس .. ولا حدا حابب حدا ولا حدا طايق حدا.. و الكل واقف
للتاني على كلمة و حرف ... مفش ... مليحة ... ولاد ابنك التنيين ماتوا يا
مليحه.. كنت بتمنى يموتوا زي اعمامهم التنيين اللي ظلو يطخو واليهود تطخ
عليهم لما صارو شهداء الله يرحمهم ... إحكيلهم إنوا أولاد اخوكو كتلوا بعض
'. استطعت اثناء المشهد ورغم العتمة ان ألاحظ 'رأفت' الجالس امامي وهو
يحتضن يد حبيبته كلما أظلمت القاعة ، قلت : غريبة جدا غزة ، تتقطر من بين
اصابعها الاوجاع والمسرات ، وهي تكاد تشقك في كل شيء الى نصفين.سئمت النظر
الى وجهك يا غزة، متى ستكفين عن التكشير ؟
المسرحية
تحكي عن الموت المجاني والقهر المجاني ،نقلت واقعا قابل للتفجر والايذاء
في أي لحظة ، مع انه متفجر داخليا بكل ثانية من اللحظة ، تروي قصة الانسان
في غزة الذي تتكالب عليه جميع الاشياء والاسماء لتسلب انسانيته، حكت عن
النقصان واللافعل ، الاستلاب ،التهويم ،الخوف ، الهوية وموقع الفرد في
مجتمع مسير لكل اجندات العالم، جاء كل ذلك برؤيا حاول فيها المخرج التمرد
على الواقع ، فكانت فكرة بث الروح في الصندوق الذي يخرج منه الراوي بين
حين وآخر .لنكشتف نحن لذة التأويل ، المختبر الحقيقي لكفاءة العمل وقدرته
على استثارة المتلقي.
العمل رائع بامتياز وأداء الممثلين لم يكن بالمطلق احادي فطيلة العرض لم
يقف ممثل وحيد على الخشبة تقريبا ، ساعة وثلث الساعة من نكبات ململمة ،
كانت خفيفة جدا على القلب ،وقدمت لنا 'مسافات' لاول مرة الرائعة 'سماح
الشيخ'التي كانت بالفعل نجمة متألقة في العرض.
مسرحية 'قصص وبقايا وطن' اخراج نعيم نصر
ارتجالات وتمثيل : محمد الهسي، احمد سرحان ، رامي السالمي ،سماح الشيخ ، مفيد سويدان .
مصمم رقصات : مؤمن خليفة
ديكور : مؤمن عامر
اضاءة:احمد قدادة
كلمات وألحان نعيم نصر
موسيقى وتوزيع جبر الحاج
*كاتبة من غزة