كشفت وزارة الدفاع الإسرائيلية، هذه الأيام، عن مزيد من الوثائق السرية المتعلقة بحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 تؤكد
مجددا الرواية المعروفة، بأن اسرائيل عاشت لسنين طويلة «سكرة الانتصار على العرب» عام 1967، لدرجة انها لم تصدق التحذيرات التي وصلت اليها عن استعداد مصر وسورية للحرب، بل ان قيادتها السياسية والعسكرية أقنعت نفسها بأن العرب لن يحاربوا وان التحركات والحشود العسكرية التي قاموا بها عشية الحرب كانت مجرد اجراءات دفاعية لاقتناعهم بأن اسرائيل هي التي تخطط لشن الحرب.
والوثائق هي عبارة عن 20 شهادة لقادة سياسيين وعسكريين، قدموها أمام «لجنة أغرنات» الرسمية للتحقيق في اخفاقات هذه الحرب، التي كانت قد أقامتها حكومة غولدا مائير في نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 وأنهت تحقيقها في السنة التالية. يذكر ان الاسرائيليين يرون في حرب أكتوبر بمثابة انعطاف تاريخي في سياستهم. فقد أدت هذه الحرب، رغم ان لجنة التحقيق أعفت القيادة السياسية من مسؤولية الفشل، الى الاطاحة بالحكومة ولجنة التحقيق نفسها وأطاحت بالقادة العسكريين، بدءا برئيس أركان الجيش وحتى قائد اللواء الجنوبي، وبعد أقل من ثلاث سنوات من الحرب حصل انقلاب في الحكم، حيث انتهى حكم حزب العمل وهو الذي قاد الحركة الصهيونية منذ تأسيسها في نهاية القرن الأسبق (81 سنة)، ووصل الى الحكم حزب اليمين المتطرف، الليكود. وفي حينه بقيت تحقيقات لجنة أغرنات سرية بغالبيتها الساحقة وسمح فقط بنشر التوصيات حولها. وبعد 30 سنة تم كشف وثائق جديدة. وفي السنة الأخيرة سمح بنشر تقرير اللجنة كاملا، وانفردت «الشرق الأوسط» بنشره.
وقبل سنة قررت لجنة خبراء نشر 20 شهادة، لكن وزارة الدفاع اجلت النشر حتى هذه الأيام، وذلك بعد أن تدخلت الرقابة العسكرية وأبقت على العديد من المواد سرية، وبضمنها شهادات مسؤولين سياسيين وعسكريين (مثلا شهادة رئيسة الحكومة، مائير، بقيت سرية وشهادات قادة المخابرات) وبروتوكولات قيادة الأركان والقيادات اللوائية وغيرها الكثير.
طيارون روس وألمان في سورية
* وضمن ما سمح بنشره حديثا يتضح ـ حسب الرواية الاسرائيلية الرسمية ـ ان سورية، التي كانت نجحت في بداية الحرب بتحرير كامل هضبة الجولان تقريبا، ولكن اسرائيل تمكنت من دحرها في مرحلة لاحقة، عندما صبت معظم قواتها في الشمال وبدأت بدفع الطائرات والقوات المخصصة للجبهة المصرية الى الجبهة السورية، توجهت الى الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية طالبة النجدة. فقرر الرئيس السوفياتي ليونيد برجينيف والألماني ايريك هونيكر التجاوب مع الطلب السوري. فأرسل السوفيات (في 14 أكتوبر) الى ألمانيا الشرقية طواقم طيران وتم تفكيك 12 طائرة ميغ 21 وإرسالها الى دمشق مع طواقمها وفي سورية تمت إعادة تركيب الطائرات ودهنها بألوان الطائرات والعلم السوري. وكان من المفروض ان يدخلوا الحرب مباشرة بلباس الجيش السوري في 24 أكتوبر، ولكن في ذلك اليوم بدا أن هناك اتفاقا لوقف اطلاق النار. واحتجت اسرائيل على هذه الخطوة بالقول ان ألمانيا التي حاولت ابادة الشعب اليهودي في زمن النازية، ما كان عليها أن تسمح لنفسها بمحاربة اسرائيل ولو بشكل محدود كهذا.
باراك يسرق سيارة
* وتكشف الوثائق ان إيهود باراك، وزير الدفاع الحالي، الذي كان أثناء تلك الحرب ضابطا شابا برتبة نقيب، عمل في الجبهة السورية. وبعد اعادة احتلال الجولان شاهد أحد أصدقائه سيارة من طراز «مرسيدس» سورية، فأعجبته. فاستدعى باراك لكي يفتحها، حيث كان باراك مشهور بهواية فتح الخزانات وفتح وادارة أية سيارة، فحضر متحمسا للمهمة. وبعد أن فتحها وأدار محركها قرر سرقتها. وبالفعل، أخذها وتوجه بها الى تل أبيب. ولكنه راجع نفسه وهو في الطريق، فقرر أن يهديها الى أحد قادته، نائب قائد الوحدة الخاصة التابعة لرئاسة الأركان، مناحيم ديغلي. وبالفعل وضعها أمام بيت ديغلي وغادر، واتصل به يخبره بالهدية. ولكن قبل أن ينعم بها القائد، كانت الشرطة العسكرية قد علمت بالموضوع وحضرت وصادرتها.
حرب الجنرالات
* وأفردت لجنة أغرنات حيزا كبيرا من تقريرها الى ما يسمى «حرب الجنرالات» في قيادة الجيش الاسرائيلي، حيث سادت العداوات الشخصية بين مختلف القادة. وأثرت هذه العداوات على أداء الجيش بصورة غير معقولة. ففي مرحلة معينة من الحرب تلقى الجنرال أرئيل شارون (رئيس الحكومة السابق)، أمرا بنجدة قوة أخرى تحارب في مكان قريب منه. ولكنه لم يلتزم بالأمر. وقال فيما بعد انه لم يفعل لأن الأمر لم يصل اليه. وأشارت اللجنة الى ان الحكومة ووزير الدفاع بشكل خاص سوية مع رئيس الأركان، ديفيد أليعيزر، عمقوا الشروخ وزادوا من تأجيج حرب الجنرالات. فقد فرضوا على قائد المنطقة الجنوبية، الجنرال شموئيل غونين، جنرالين أحدهما فوقه، وهو حاييم بارليف (رئيس أركان متقاعد)، والثاني تحته، هو أرئيل شارون (القائد السابق للواء الجنوبي). الأول أخذ القيادة بشكل جدي وفرض عليه آراءه والثاني تمرد عليه وتصرف على هواه في أكثر من موقع. شارون سرق وثائق خطيرة ورفض تسليمها واحترقت في بيته قبل غيبوبته
* في ذلك الوقت، توج الجنرال أرييل شارون، بطلا في هذه الحرب. فرغم الاخفاقات المتواصلة فيها، ظل اختراقه ثغرة الدفرسوار وتهديده باحتلال القاهرة علامة لرفع معنويات الجيش والشعب في اسرائيل. وما من شك في أن دخول شارون السياسة، من بعد تلك الحرب، وبفضل دوره في تلك الحرب وتأييد الجمهور له، هو الذي أوصله ـ ولو متأخرا ـ الى كرسي رئاسة الحكومة.
بيد ان قادة الجيش والسياسيين في اسرائيل كانوا يمقتون شارون ويكنون له مشاعر الخصومة والعداء. فهم يعرفون أسرار تصرفاته التمردية وقسم كبير منهم وقع ضحية لغطرسته، وكانوا يخشونه. وليس صدفة ان رئيس الحكومة الأشد تطرفا ويمينية في اسرائيل، اسحق شامير، خشي من انقلاب عسكري ينظمه شارون ضده. وانتبهت لجنة أغرنات للتحقيق في هذه الحرب الى تصرفات شارون، ولكنها لم توجه له انتقادات. وفي تقريرها النهائي اضطرت الى مدحه، آخذة بالاعتبار تأييد الجمهور له. ويركز شارون في شهادته أمام اللجنة على غياب القادة العسكريين عن ساحة القتال وبالتالي الابتعاد عن الجنود وعن معاناتهم. فقال ان الجنرالات في رئاسة الأركان لم يكلفوا أنفسهم عناء التوجه الى الجبهة ليروا حالة جهنم التي يعانونها. ولذلك فإن أوامرهم كانت في كثير من الأحيان منسلخة عن الواقع ولا تصلح للتطبيق. ومن هنا فقد أعطى تبريرا لتمرد بعض الوحدات على الأوامر. واتضح خلال التحقيق مع شارون انه أخذ الى بيته صناديق تحتوي على بروتوكولات الحرب في لوائه ولم يسلمها الى اللجنة ولا الى قيادة الجيش. ودخل في نقاشات حادة مع أعضاء اللجنة، وخصوصا يغئال يدين، رئيس الأركان الثاني في الجيش الاسرائيلي، الذي سأله: هل تعتقد بأن هذه الوثائق هي ملك شخصي لك؟ فأجابه: لا. ولكنه في كل مرة ظل يتهرب من الموضوع وينتقل الى موضوع آخر. وقد هدده يدين بتقديمه الى المحاكمة في حالة عدم تسليم هذه الوثائق، فرد عليه قائلا انه مستعد للمثول أمام القضاء في هذه القضية. وبالفعل، أوصى يدين بمحاكمة شارون، ولكن النيابة العسكرية لم تفعل. وفي نهاية المطاف جلس يدين وشارون وزيرين في حكومة مناحيم بيغن وبقيت الوثائق في بيت شارون. وفي مطلع سنة 2000 نشب حريق مفاجئ في هذا البيت، وقيل ان النيران التهمت هذه الوثائق ولم يبق منها شيء. ويؤكد خصوم شارون ان كشف هذه الوثائق كان سيغير الكثير من التلخيصات حول هذه الحرب ويكشف أمورا خطيرة جدا.
غورديش: مشكلتنا أننا استهترنا بقوة العرب
* قائد اللواء الجنوبي في هذه الحرب، الجنرال شموئيل غونين الملقب بـ «غورديش»، هو الذي دفع أكبر ثمن في تقرير لجنة أغرنات. فقد فرضت عليه الحكومة، ومنذ الأيام الأولى للحرب، قائدا للواء هو حايم بارليف، رئيس أركان الجيش الأسبق، الذي كان قد بنى خط الدفاع الاسرائيلي على الضفة الشرقية من قناة السويس وعرف باسمه: «خط بارليف». وعمليا، لم يقد هذه الحرب في الجنوب، ومع ذلك فقد حملته اللجنة مسؤولية الفشل في اعداد الجيش للحرب كما يجب وأقالته من صفوف الجيش.
«غورديش» من جهته حاول الدفاع عن نفسه في شهادته أمام اللجنة فقال انه شخصيا تصرف على أساس ان الحرب على الأبواب فطالب بمنحه أوامر لتوجيه ضربة مانعة، فرفضوا. وقال انه كان مقتنعا بأن مصر تنوي شن هجوم وطلب قبيل الحرب امداده بقوات من الاحتياط لكن طلبه رفض. ويقول انه خلال الحرب شعر بأنه أقيل من منصبه كقائد أول، ومع ذلك فقد عاقبوه كما لو انه القائد الوحيد.
وحاول «غورديش» فتح عيون القيادات الاسرائيلية، من خلال شهادته أمام اللجنة، بالخطأ الاستراتيجي للسياسة الاسرائيلية تجاه العرب. فلم يروا. بل أغلقوا عيونهم وعيون الجمهور بواسطة وضع شهادته في صندوق السرية التامة. فقد لفت «غورديش» خلال شهادته بأن المشكلة لا تكمن في مستوى الاداء الحربي والتحضيرات الاسرائيلية للحرب بل في النظرة الاسرائيلية تجاه العرب «فقد كنا جميعا، وأنا أيضا، قد أقنعنا أنفسنا بأن العرب لن يجرؤوا على شن حرب علينا. وحسبنا انهم إذا حاربوا، فسيتراجعون من أول رد نقدمه. كنا نعتقد بأننا سنصدهم حتى لو تقدموا 3 ـ 4 كيلومترات في سيناء. وتبين لنا ان نظرتنا الى العرب خاطئة ومبنية على مقاييس غير واقعية. فقد نجحوا في مفاجأتنا وفي تضليلنا وعندما قاتلوا فاجأونا بدقة خططهم العسكرية ودقة تنفيذها وليس فقط لم نستطع صدهم في 3 ـ 4 كيلومترات، بل تقدموا 10 ـ 20 كيلومترا الى الأمام ولم نستطع صدهم». وقال غورديش «أنا في أسوأ أحلامي لم أتوقع مثل هذه النجاعة في القوات المصرية». لم نتعلم الدرس
* وعقّب يعقوب حسيداي، الذي عمل محققا كبيرا في اللجنة، على نشر الشهادات، أمس بقوله: «القضية ليست الشهادات وليس التعليق عليها. اننا في مشكلة نتهرب منها جميعا، وهذه المشكلة لا تقتصر على حرب أكتوبر. فالقيادات الاسرائيلية في حرب أكتوبر كانت مصابة بمرض خبيث هو مرض الاستخفاف بالعدو والثقة الزائدة بالنفس. بسبب ذلك لم يعدوا دراسات استراتيجية مهنية للمواجهة القادمة وعندما وقعت المواجهة لم يكونوا مستعدين كما يجب. ونتج عن ذلك الدخول الدائم في بلبلة. والسؤال المهم هو: هل كانت حرب أكتوبر 1973 مجرد حادث عرضي أم انها كشفت عن وجود مرض متأصل فينا؟ الحقيقة ان من يرى نتائج حرب لبنان الأخيرة يجد ان المشكلة مرضية وليست حدثا عابرا، وهذا هو الأمر الخطير».