الانهيار الأخلاقي في المنظومة العسكرية الإسرائيلية
القضيّة التي تتجاذبها ، هذه الأيام ، الصحافة العبريّة ، وتوليها مزيداً من الاهتمام ، هي قضيّة انهيار المباديء القيميّة ، وتآكل المعايير الأخلاقية ، والسلوك الحيواني للجيش الإسرائيلي حسب تعبير ( يهودا ليطاني ) الكاتب في " صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية " في 27 نوفمبر الفائت ، بسبب الوقائع التي أزيح عنها الستار بشأن قتل الطفلة إيمان الهمص ذات 13 ربيعاً ، من مخيم رفح بقطاع غزّة ، والتنكيل بجثث المواطنين الفلسطينيين .
في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر ، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت ، صوراً لحالات مرعبة ، أظهرت مدى السادية المخزونة في بنية التكوين النفسي للجيش الإسرائيلي تجاه الآخرين ، كما أظهرت المدى الأقصى للسلوكيات الشاذة التي يتمتع بها جنود الجيش الإسرائيلي ، وقد أزاحت صور جنود الاحتلال وهم ينكلون بجثث وأشلاء الضحايا الفلسطينيين – أزاحت-الستارة الرقيقة عن مدى الانهيار الأخلاقي ، والترديّ القيميّ في العقيدة العسكريّة الإسرائيلية !
وكانت القناة الثّانية في التلفزيون الإسرائيلي قد بثّت قبل أيام قليلة محادثة بين الضابط الإسرائيلي ، الذي قتل إيمان الهمص ، وعددٍ من جنوده في شمال قطاع غزّة ، سجلها راديو الجيش الإسرائيلي ، أثناء إطلاق النار على الطفلة ، قال الضابط فيها :" أيّ شيء يتحرك في المنطقة لو كان عمره ثلاث سنوات يجب أن يقتل ! . ( عن موقع الجزيرة ) وقد أماطت المحادثة اللثام عن اللحظات القاسية التي شهدت قتل الطفلة البريئة ، وبدت المحادثة حواراً دراميّا ، وشريطاً لفلمٍ سينمائي ، حسب وصف الدكتور عزمي بشارة ، بطلهُ ذلك الضابط الإسرائيلي الذي أفرغ ذخيرته في جسد الطفلة النديّ ، ليتأكدَ من موتها ! . تماماً مثلَ تلكَ الصورة التي شاهدها العالم لمراسل إحدى المحطّات التلفزيونية الأمريكية ، والتي أجهز فيها جنديّ من المارينز على شيخٍ أعزل جريح في أحد مساجد الفلوجة في العراق! .
طالب مركز بتسليم " وهو مركز إسرائيلي يعنى بالحقوق الإنسانية " يوم الجمعة 26 من شهر نوفمبر ، باستقالة رئيس هيئة الأركان العامة ، الفريق موشيه يعلون ، من منصبه في الجيش الإسرائيلي . وصرحت المتحدثة باسم المركز ( ساريت ميخائيلي ) " بأنّ هذه أول مرّة نطالب فيها بهذا الإعلان ، لأنّ الوضع أصبحَ لا يُطاق ، وعدد القتلى من المدنيين الفلسطينيين ارتفع بشكل مذهل ، دون إجراء أيّ تحقيق جديّ من قبل الجيش الإسرائيلي".
وتنقل الصحف العبريّة الجدل الدائر حول تآكل القيم في المنظومة العسكريّة الإسرائيلية ، ويعيد معظم الكتاب أسباب ذلك لاستمرار الحرب ، والضعف في الثقافة القيميّة بالجيش الإسرائيلي ، والبعض من الكتّاب يعيدها لسبب استمرار الاحتلال للمناطق الفلسطينية .
المؤسسة العسكريّة الإسرائيلية في هذا الجدل ماتزال تبدي دفاعاً ، وتؤكد على نظافة السلاح الإسرائيلي ، وعلى رقيّ الأخلاق العسكريّة التي تتمتع بها المنظومة العسكرية العبريّة ، وترفض التدخلات التي تأتي من خارج إطارها كمحكمة العدل العليا الإسرائيلية .
واعتبر يعلون رئيس هيئة الأركان العامة في الكيان الإسرائيلي في 24 نوفمبر أيّ تدخل من قبل القضاة ورجال القانون ، من خارج المنظومة العسكرية ، لا يمكن أن يوصل إلى حقيقة القضية المثارة ، حول قتل الطفلة إيمان الهمص . من جانبٍ آخر يعتبر يعلون أنّ كلّ شكّ بالعدالة المطلقة للعمليات العسكريّة الإسرائيليّة يخرّب على أمن الدولة العبريّة ، حسب ما ذكره الكاتب عوفر شيلح في 21 نوفمبر في صحيفة يديعوت أحرونوت .
في الحقيقة أن يعلون ومؤسسته العسكرية ، تخشى من الضجّة الإعلاميّة المثارة حول قضيّة الضعف الهائل للمعايير القيميّة في الجيش الإسرائيلي ، لأنّ الموضوع بحدّ ذاتهِ يثير لدى القيادة العسكريّة الخوف من التبعات القانونيّة ، سواء أكانت هذه التبعات إسرائيليّة أو فلسطينيّة أو دوليّة . وأعتقد أنّ المؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة لا يهمها ، بشكل من الأشكال ، القيم المتآكلة أو الأخلاق المتدنيّة في الجيش الإسرائيلي ، لأنّ العقيدة العسكريّة الإسرائيليّة لم تنشأ بالأساس على قواعد أخلاقيّة ، ولا على أسس ذات صلة بالقيم الإنسانية ، بل اعتمدت على فلسفة البقاء أو الفناء ، على نحوّ يجعل البقاء لهم والفناء للآخرين ، أو أنّ الآخرين مسخرون لخدمتهم . فالعقيدة العسكريّة الإسرائيليّة منذُ بزوغها تمضي في سياق المجريات السياسيّة الإسرائيلية في اغتصاب الأرض الفلسطينية ، وانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني .
الموضوع ، في حقيقته ، هو الخوف أن تتكرر الصورة التي أرعبت شارون ، ومنعته من السفر إلى أوروبا ، بسبب الدعوى القضائية التي أُقيمت ضدّه في محكمة بروكسل ببلجيكيا . وما يخشاهُ العسكريون والقضاة والمؤسسات الإنسانيّة الإسرائيلية ، أن تعرفَ قضايا القتل العمد للأطفال الفلسطينيين طريقها إلى المحاكم الأوروبيّة ، أو محكمة العدل الدولية في لاهاي .
إذا ما أراد الجانب الحقوقي أو اللجان الحقوقيّة أو المؤسسات الإنسانيّة الفلسطينية ، أو العربية ، أو الأوروبيّة ، أن تستخدم هذه القضيّة في المحاكم الدوليّة ، فالفرصة سانحة الآن ، لأنّ القرائن والثوابت والحيثيّات متوفرة ، فيما نقلته وسائل الإعلام الإسرائيليّة والعالميّة .
والحقيقة أنّ العامل الشخصي في داخل منطقة القضايا القانونيّة لهُ أهميته ، فذوو الطفلة إيمان الهمص ، وأهل كلّ طفل فلسطينيّ قتله الجيش الإسرائيلي لهم الحقّ في توكيل لجان من الحقوقيين لرفع دعاوى قانونيّة بحقّ رئيس الأركان ، أو أيّ ضابط أو عسكري إسرائيلي قد يرد اسمه أمام المحاكم الأوروبية ، أو أن ترفع السلطة الفلسطينية تلك القضايا لمحكمة العدل الدولية عن طريق الأمم المتحدة ، من ناحية أخرى ، يمكن للقضاء الفلسطيني أن يستقبل مثل هذه القضايا على منصات المحاكم الفلسطينية ، وهذا الأمر فضلاً عن أنّه حقّ من حقوق السيادة الوطنيّة الفلسطينيّة ، فإنّه يأتي في سياق مواجهة الإجراءات القانونية الإسرائيلية ، خاصة في مواجهة القررات القضائية التي تصدر عن المحاكم الإسرائيلية ، التي تشرّع اعتقال الفلسطينيين دون التفاتٍ للصفات الاعتبارية والرسميّة لبعض المعتقلين ، مثل النائب مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح في الضفة الفلسطينية ، والنائب حسام خضر ، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عبد الرحيم ملوح ! .
أظهرت الوقائع التي أنتجتها آلة التدمير الإسرائيليّة ، في الوطن الفلسطيني ، المستوى المتدني للقيم الأخلاقيّة التي يتصف بها الجيش الاحتلالي الإسرائيلي . وقد لامست هذه الحقائق منظمات إنسانيّة دوليّة وفلسطينيّة ، أبدت إدانتها نحوها ، وكشفت للرأي العام العالمي عن موضوع الجرائم وفداحتها ، وانعكاسها على القيم الإنسانيّة عبر أدلّة ووثائق لا يرقى إليها الشّك ؛ ففي الثالث والعشرين من شهر سبتمبر الماضي ، ذكر مركز الميزان لحقوق الإنسان في فلسطين " أنّ القوات الإسرائيلية تواصل استهدافها للأطفال الفلسطينيين على مقاعد الدراسة . . وأضاف المركز أنّ استشهاد الطفلة رغد العصار يرفع عدد الأطفال الذين قتلتهم قوات الاحتلال في قطاع غزّة إلى 424 طفلاً منذ بدء الانتفاضة " .
من جهة أخرى سجلت منظمة هيومان رايس ووش لحقوق الإنسان إدانتها في التاسع من أكتوبر الماضي ضدّ الحكومة الإسرائيلية ، وجاء في بيان للمنظمة المذكورة " أنّ إسرائيل انتهكت القانون الدولي من خلال هدم المنازل ، وقتل الكثير من المدنيين في مخيم رفح بقطاع غزّة " . في نفس اليوم أدان المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين ( الأنروا ) السيد بيتر هانس إسرائيل التي أفرطت في استخدام القوة ضدّ المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزّة .. "
الحقائق واضحة ، والإدانات دامغة ، والوثائق وافرة ، والأمر المطلوب هوَ توفير آلية حقوقيّة رسميّة ، أو مجتمعيّة مدنيّة ، تسوق الإدانات ضدّ رئيس الأركان يعلون ، وضدّ كلّ ضابط أو عسكري إسرائيلي يثبت تورطه في قتل الأطفال أمام المحاكم الأوروبية .
إنّ وضع مثل هذه القضايا على منصّات المحاكم ، من شأنه أن يسقط الرعب في قلب يعلون وغيره من الإسرائيليين ، ومن شأنه أيضاً أن يفضي إلى تفاهمات تبادلية بين الجانبين الفلسطيني الإسرائيلي ، في سياق التجاذب السياسي.