باحتفال صغير نظمه أبناء عمومته احتفل ثائر ابن الاسير عبد الهادي غنيم بعيد ميلاده العشرين ، حضر الجميع ، ما عدا الأب الغائب عن العين ، الحاضر بقوة في القلوب.
ثائر ، يحتفل اليوم بدخوله العام الواحد والعشرين وبالتزامن في مثل صبيحة هذا التاريخ، يوم الخميس، السادس من يوليو/ تموز عام 1989، حين كان عمره يوما واحدا فقط أفاق العالم كله ،على خبر مجلجل تصدر وسائل الاعلام وهي تبث صور واصوات ونواح الاسرائيليين حزنا على قتلاهم الـستة عشر وجرحاهم الذين سقطوا في عملية الحافلة رقم(405) المتوجهة من تل أبيب الى القدس المحتلة.
وثائر الذي يتوق لان يمارس حياته بشكل طبيعي بوجود ابيه اصبح طالبا في السنة الثالثه يدرس ادراة الأعمال في جامعة القدس المفتوحه وامه ترعاه وعيونها صوب ذاك السجن اللعين الذي يحتضن والده الذي ينتظر الحريه .
'
لأجل حرية أهله وشعبه تركني بعد زواج قصير مدته 9 شهور و17 يوم وذهب ليلبي نداء الواجب ، ترك ابنه المولود وعمره يوم واحد ، لم يره كي لا يتعلق به ويثنيه عن عزمه ، ولا يفعل ذلك الا من ذاق الأمرين من ظلم الاحتلال هذا ماقالته نعمة غنيم 'ام ثائر' زوجة الاسير عبد الهادي غنيم .
قالت' أفتقده جداً وكل شيء في البيت يفتقده ورغم قسوة الحياة التي واجهتها وما زلت اواجهها الا أنني فخورة به وبما فعله ، لدينا احتلال ينغص حياتنا باستمرار ولنا الحق ان ندافع عن حريتنا بكل السبل.
واضافت ' وضعت مولودي الوحيد ثائر ليلة الاربعاء جاء لرؤيتي في المستشفى بعد ان وصله خبر وضعي لمولودي البكر ، ثم غادر بعد ان قال 'هدية الولد بتوصله' و كانت تلك العملية هديته نفذها صباح الخميس.
ثم نسفت سلطات الاحتلال بيتا بالكامل بعد يومين من العملية ،وعشنا عامين كاملين في خيام من الصليب الاحمر،بعد اعتقاله اصبحت مسئولة عن كل شيء ، وضايقتني المخابرات الاسرائيلية في كل تحركاتي ، خصوصا حين كنت اذهب لزيارة أهلي في بئر السبع ، أواثناء زيارة زوجي .
وتغيرت شخصيتي تماماً ، بعد ذلك لأتمكن من مواجهة الحياة وقسوتها بعد ان أصبحت أحمل عبئا كبيرا ومسئولة عن كل شيء في غيابه ، اصبحت الأم والأب لابني 'ثائر'الذي تمّم أمس وبالتزامن مع اعتقال والده عشرين عاما .ربما كلمة 'عبء كبير' هي مجرد شيء نقوله ولكن الوضع عمليا يفرق أكثر لان الحياة في قطاع غزة وبغياب الزوج استنزاف للاعصاب والجهد والروح .
وناشدت زوجة الأسير عبدالهادي غنيم خاطفي الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط بعدم تسليمه الا بعد الافراج عن 450 اسيرا فلسطينيا ممن تطلق عليهم اسرائيل ' أيديهم ملطخة بالدماء' ومن بينهم زوجها .
كما وجهت مناشدة لوالدة شاليط بالضغط على حكومتها لاطلاق سراح الأسرى الفلسطنيين لأن لهم زوجات وأمهات وأبناء وآباء يعانون من غيابهم .
'مفش سجن بيضل مسكر ، وربنا راح يفرجها من حيث لا نحتسب ، وانشالله يا ابو ثائر بتكون بينا وبين اهلك بالقريب العاجل ، وما تتطلع لشو بيصير برا السجن ، خللي عللاقتك حلوة بالجميع هناك لأنكم جميعا اسرى' ، تلك كانت رسالة رضوان ابو شميس صديق طفولة عبدالهادي له في سجنه.
و يقضي ابو شميس بقية حياته على كرسي متحرك ، اثر اصابته بشلل نصفي من رصاص الاحتلال والذي استفزت اصابته صديقه عبدالهادي لينتقم له.
ويقول ابو شميس ' صديقي عبدالهادي لا يغيب عن بالي ولا لحظة وبمجرد ان يخطر على بالي اتذكر ضحكته، كان يغمض عينيه ويرفع راسه لفوق ويضل يضحك ، كان مزحه عنيف والي بيمزح معه لازم يطلع بإصابة عند قصبة الرجل'.
وأشار الى العلاقة الوثيقة التي كانت تربطهما حيث ان عبدالهادي ترك عمله و رافقه لفترات متفاوتة اثناء علاجه في المستشفيات وكانت اطولها لمدة (6 شهور) حين كان يتعالج اثر اصابته في مستشفى المقاصد الخيرية .
وقال ابو شميس 'عبدالهادي كان انسان بسيط جدا وهادئ جدا ، لم يتخيل احد انه يمكن ان ينفذ عملية بطولية بهذا الشكل وبهذا التكتيك الذي ارعب الاسرائيليين ، وبعد اعتقاله كنت ازوره مع عائلته ، وكنا نتواصل ايضا عبر الهاتف الجوال ولكن سلطات الاحتلال اكتشفت الجوالات وصادرتها منهم ، وزرعت اجهزة تشويش عليها ، وكنا نتواصل ايضا عبر الرسائل البريدية ولكن الآن لا يوجد أي تواصل معه منذ 4 سنوات تقريبا'
ويؤكد ابو شميس ان عملية الحافلة(405' التي نفذها عبدالهادي فاجأت اسرائيل وحولت مسار الانتفاضة الفلسطينية بعد ان كان عملها كله لجان ، بل وهزت العملية العالم كله ، لانها جاءت بمبادرة وبقرار شخصي ودون امكانيات وتكللت بالنجاح واوقعت خسائر بأرواح الاسرائيليين .
وأكمل ' اثر العملية اعتقلت قوات الاحتلال أغلب شباب المخيم ، ومن ضمنهم شقيق عبدالهدي ، واصدقاؤه وأنا واخوتي الثلاثة ولكنهم افرجوا عن الجميع بعد ان تأكدوا انها عملية فرديه لا علاقة لغير عبدالهادي بها ، ولا شك ان هذا هو سبب نجاحها أنها تخطيط فردي'.
ولا يخفي رضوان احساسه بالذنب احيانا لأن العملية التي نفذها صديقه عبدالهادي غنيم كانت انتقاماً لاصابته من الاسرائيليين وتنكيلهم به ، فيقول' يلعن العالم كله، أشعر بالذنب ، لو ما صار الحادث معي كان عبدالهادي بيناتنا الآن ولكن الله كبير'.
هنا .. في غزة ، الوجع ربانياً ، والصمود اسطورياً ، يمارس الجميع فعل عبوره للحد الفاصل بين ما هو سماوي وما هو أرضي ، هنا.. ثمة فسحة أمل في ظلمة الطريق ، وخطوة ثم خطوة يواصل الناس الحلم حتى وان اتخذ شكل الكابوس ..فقط .. ليواصلوا الحياة.
عملية كبيرة ، لم تطلق فيها رصاصة واحدة هزت الكيان الاسرائيلي ، حكمت بعدها المحاكم العبرية بالسجن الفعلي لمدة 16 مؤبد و480 سنة على منفذها عبدالهادي سلمان غنيم المولود في مخيم النصيرات للاجئين والذي ينتمي لحركة فتح ، وسجل برقم(112) كأخطر ملف أمني داخل السجون الاسرائيلية بعد ان اعترف انه نفذ عمليته انتقاما للشهداء والأسرى والجرحى من ابناء شعبه ، وانه نفذها انتقاما لصديق طفولته 'رضوان ابو شميس' الذي شلًه رصاص الاحتلال.
في تموز عام 1989 ومن مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وبقرار شخصي توجه عبدالهادي غنيم ، ذو الاربعة والعشرين عاما الى محطة الحافلات المركزية في ' تل ابيب ' ثم صعد إلى الحافلة رقم ' 405 ' المتجهة إلى القدس المحتلة ، وجلس في المقاعد الأمامية ،وحين اقتربت الحافلة من منطقة أبو غوش فوق منطقة الواد ، انقض عبدالهادي على السائق وأمسك بمقود الحافلة وحرف مسارها لتهوي وتتدحرج عشرات الأمتار ، وتستقر في قاع الوادي السحيق.
كان الأمر يشبه الهبوط الى الجحيم ، وحده الدم يصرخ في العراء ، وعشرات الجثث لجنود اسرائيليين ومدنيين تتطاير متناثرة من الحافلة ، والحصيلة النهائية مقتل ستة عشر إسرائيلياً ، وإصابة 24 آخرين بجراح معظمها خطيرة .وبقي عبدالهادي غنيم على قيد الحياة بعد اصابته برضوض وكسور في الرأس والساق والحوض.
ومن غزة ، آهة طويلة أطلقتها 'أم ثائر' زوجة عبد الهادي، حيث الألم والحنين يتسلل من الجسد ليستوطن عروق القلب ، ويستبد بالروح قالت : 'أما آن لهذا الفارس ان يتحرر' ؟! عشرين عاماً من أصل 2064 سنة، قضاها هذا الفارس متنقلا من سجن الى آخر ومن عزل الى عزل ..ألا تكفي