حماس وأزمة فكر تفرخ أزمات
محمد يوسف جبارين
\\\\\\\\\\\\ فاذا كان احتلال ارض فلسطين ونفي
شعبها سبيل الصهيونية الى اقامة دولة اسرائيل ، فكذلك حماس هي مشروع احتلال للمشروع
الوطني الفلسطيني كسبيل الى اقامة دولة للاخوان المسلمين في أرض فلسطين ، والجامع
بينهما على كون الواحد منهما نقيض الآخر هو سيمات الايديولوجيا الغارقة في النفي
للآخر ، فالصهيونية قرينة فكرة الاقتلاع للعربي لاحلال اليهودي مكانه ، وحماس
بايديولوجيتها تريد اقتلاع كل فكر يخالفها لتنزرع في الذهن وفي النفس ، فليس ثمة
ما ينساق به الانسان بغيرها ، فالمقابل لدى حماس هو احتلال الانسان ، اقتلاع ما
يتنافى وزرع ما يتفق ليغدو هذا الانسان من أفراد القبيلة الحمساوية ، فأما من يعاند
ويكابر ويرفض ويعترض فلديه الذي يراه الأجدر بالاتباع ، فذاك الذي تنزل عليه كل
مكنونات الغيظ الدفين ، فكأنه لدى حماس الخطر الذي لا بد من تجاوزه ، فالعقيدة
والمبادىء تبرر النفي والاحتلال ، ولما أن العقل والنفس موظفة في خدمة
الايديولوجيا ، فالمخلوق البشري هنا أو هناك منفعل بما يعتقده ويفعله ، فلا رادع
يردعه ، فهو يبذل الغالي والرخيص من أجل فكرته ، يموت من أجلها ، وهو اذ يبدو
تابعا لها يحار الآخرون في ما يقدم عليه أحيانا من أعمال ، لا تقيم للانسان قيمة ،
ولكن الحيرة سرعان ما تتبدد ، حينما يتم فهم المدى الذي يمكنها الايديولوجيا أن
توظف المخلوق البشري في خدمتها .
وحين يكون الأمر على مثل هذا الحال ، فلا بد من فهم سياسة هذا الطرف أو ذاك ،
في ضوء الايديولوجيا المتنافرة في كلا الحالين ، مع فكرة المشروع الوطني الفلسطيني
، كما يعهدها من تعلموا من ياسر عرفات جملة ' العهد هو العهد والقسم هو القسم ' ،
فسواء فتح أو غيرها من التنظيمات المنضوية تحت مظلة منظمة التحرير ، وغيرها وغيرها
، لا بد لها من أن تبحث في فكرة الوطن وفي فكرة الشعب ، وفي فكرة الدولة الحلم ،
وفي فكرة النظام القانوني لهذه الدولة ، وفي فكرة استقلالية هذه الدولة أو
استقلالية القرار الفلسطيني ، لتجد بأنها كلها مغايرة بالتمام لما يماثلها لدى
حماس ( أو فرع الاخوان المسلمين ) في فلسطين ، بل وامتحان فكرة الحرية في حياة
الفرد والجماعة وتصدرها كنظام حياة في دولة مأمولة ، هو أيضا مبعث تباين فهي هنا
ليست كما هي هناك ، فنحن بازاء ، آمال وأحلام وطموحات لا تتفق ، وحيث يلوح بأنها
تتفق تختلف ، فمثلا اذا ثمة توافق على دولة ، فاللاممكن هو الاتفاق على النظام فيها
. فنحن في حضرة طائفة أو شعب في داخل شعب ، وهذه الطائفة التي اسمها حماس لديها
مشروع منساق بايديولوجيا ، تتهافت على احتلال شعب فلسطين كله ، فلا غرابة اذا
اعلامها في خدمة مشروعها ، ويكفي متابعة هذا الاعلام منذ قامت حماس على أقدامها
والى الآن ، ليتم اكتشاف بأن هذا الاعلام لم يعرف للآخر الغير منتمي لحماس أية قيمة
، وخاصة اذا كان تنظيما يندرج في الوعي الحمساوي بأنه الضد الذي يتوجب الخلاص منه ،
فاعلام حماس مكتوبا كان أو منطوقا ، يندلق بكل عبارة غير محترمة على هذا الغير ،
والهدف التبهيت واسقاط القيمة ، في الطريق الى النفي . فمنظمة التحرير كانت ولم تزل
في محل اعراب يجب الخلاص منها ، فاسرائيل من جانب والاخوان من جانب ، وكلاهما
ينهشان لحم هذه المنظمة التي انحدرت من أصلاب المعاناة والحلم الفلسطيني وشقت درب
الحرية وسط الظلام ، بحثا عن حرية الوطن وحرية الشعب ، فتحا لتحقيق آمال هذا الشعب
في حريته .
لم يحصل أن تخلت جماعة الاخوان (حماس) ، عن تقديم نفسها كبديل لمنظمة التحرير
، وسعت بكل تكفير للمنظمة ومن فيها ، وقد ناهزت المنظمة على كل صعيد ، وحاولت بكل
ما تملك ، وبكل سعي الى تعطيل سياساتها واتفاقات عقدتها، وكانت بالفعل العقبة التي
لا تتردد ، في أن تنزل أمام خطى المنظمة ، بهدف واضح وصريح هو افشالها ، ولعله بعد
عودة ياسر عرفات ، الى أرض فلسطين ، قد تجلت أفعال حماس ، بين فترة وأخرى ، بالمعنى
الواحد ، وهو افشال برنامج ياسرعرفات والمنظمة عموما .
ولقد اشتقت حماس مواقفها من ايديولوجيتها ، سواء كان ذلك في مواجهة المنظمة ،
أو في مواجهة اسرائيل ، وقد أدارت صراعها ، على كل صعيد ، على أنها المؤهلة لوراثة
التاريخ والوصاية على الدين ، وعلى قيادة زحف التابعين لها ، وهم برأيها جند الله
في الأرض ، وغايتها كما تصورها تجديد زمن مضى ، وكان على المؤمنين ، حقا أن يبذلوا
ما كان السابقون بذلوا ، وفي سياقات هذا كله ، فكل سعي الآخر الذي هو غير حماس في
ساحات فلسطين ، انما هو حركة نضال وكفاح ليست لوجه الله ، وانما هي الباطل يقارع
الباطل الآخر الذي هو اسرائيل ، فليس ثمة حق سواها حماس وارثة رسالة السماء ، فأما
كيف تم بالوعي واللاواعي معا نزع الأهلية لقيادة التاريخ عن غير حماس ، أو نزع جملة
الاسلام والايمان عن غيرها ، فذلك انبثاق من التعصب والانغلاق الفكري ، والنزول
بالدين من مراتبه السامية العالية الرفيعة الى ما دونه ، ودون مقاصده ، نزولا يعيد
ترتيبه في العقلية على مقاس شخوص ، عجزوا عن الارتقاء بأحوالهم النفسية ، الى ذرى
علياء الدين الرفيعة ، فهبطوا به ، وجعلوه على مقاسهم ، فتجلى على غير ما هو في
حقيقته ، فكل جملة هذا وما أفرزه من لاوعي ، قد تنافذ مع جملة وعي ، ودار بها دورته
، فطمرها ليطل هو وحده ، في عملية استرضاء لنفسية مثقلة بتناقضات ظروفها ، التي
تجنح لما يجعلها تتنفس بازدهاء نفسها ، في عملية تعويض تزيل عنها مركب نقص مختمر
في أعماقها ، فمن هنا انبثقت الشخصية التي في ظاهرها ، ما لا يتفق مع مكنون
انسانيتها المفطورة عليها ، والكامنة لها في باطنها ، وهي مبعث الرغبة الداوية في
أعماق الانسان بأن يكون حرا ، فبه رفض مفطور عليه فلا يستستغ لجم حريته بقيد املاء
وتبعية ، فالاستبداد يؤلم النفس الانسانية ، ثم ان القيد على حاجته يشقيه ، فهو
اذ يساوم في سبيل حاجته ، فلا يكون هو في قرارة نفسه ، فظاهره غير حقيقته الكامنة
في نفسه ، فسرعان ما ضروراته تستحيل به الى شخصية مركبة ، فاذا انحاز لاسلام على
مقاس ينتظم به في تنظيم ، فمع نمو وعيه واتساع دائرة ثقافته ، فسرعان ما يعي بأن
اسلامه الذي يراد له أن يكون عليه ، غير اسلامه الذي يريد أن يكونه ، فهو يريد دينه
الحنيف ، لا تفسيرات دين لا صلة لها بدين ، يتم بها توظيفه في خدمة ما لا يتفق له
مع دينه ، فكذلك تبعيته ، تظل تدوي في داخله ، فلماذا عليه أن يساير رأيا نزل عليه
، ولماذا هو الذي عليه أن يطيع وينفذ ، ولماذا رأيه يزويه في داخله ، ولا يجرؤ على
المجاهرة به ، ففي جانب معين يحس بأنه مسير بارادة غيره ممن لا يمتازون عليه بغير
أنه ارتضاهم قادة له ، بارادة هو ، فهو ليس حرا وانما هو ملتزم بطاعة غيره
وباختياره ، ، فهو يدري بأنه بالتزامه لا يكون الشخصية التي يريد أن يكونها، وانما
الشخصية التي يراد لها أن تكون .
وقد كان أنفع له ، وأكثر احتراما لانسانيته ، أن لا يقعد له الاستبداد عند
حافة رغيف خبزه ، كما فعل له الاحتلال ذلك ، وانما أن تكون ظروف الحزب أجواء حرية
، فهي بذاتها المناخ الضرورة ، لطلاقة الفكر وحرية الرأي ، التي تجعل الأداء أكثر
اتصالا بالحرية التي هي بعينها مأمول النفس ، بأن تراها مناخا يغمر أجواء الوطن ،
ثم ان التربية للحرية ، انما هي واجب كل تنظيم يسعى الى قيادة مسيرة الحرية وقيادة
التطور ، وهو ما يتوجب على حماس أن تعيه ، باكتشاف أزمة الفكر في بنيوية تكوينها
الايديولوجي ، وذلك لكي تتحرر منها ، فتتجدد بانفكاكها من تناقضاتها التي تأخذ بها
من أزمة الى أخرى ، فالى واقع تفرخ فيه الأزمة أزمات تثقل عليه ، وتزيد في ضعفه
بتفكيك سلامه الاجتماعي ، وتناثر قدرته أشلاء ، فيتبدى ذلك في اضافات في عجزه عن
السعي كوحدة متماسكة في سبيل الحرية .
الا أن حماس كنظام تابع ، وليس لها من مكونات فكرها وصلاتها بالواقع ، الا أن
تكون جملة منسوخة بقلم المتبوع على واقع ، انما هي أيضا في تبعية تلازمها ، وتملي
لها ، كما الفرد في تنظيمها ، ما جعلها كأداة تحركها ارادة قد ارتسم لها سيرها
بادارة من هي تابعة له ، فحال الفرد في نطاقها كتابع لتابع لتابع ، فالطاعة
التنظيمية ، املاء تبعية ، ما يتقاصر بمفهوم الحرية ويختزله في نطاق كيفية تحقيق
الذات في تأكيد التبعية .
وثمة قراءة واعية ونقدية لحركة التاريخ ، تقول بأن حماس ومن هي تابعة لهم ،
بانها وهم أشبه ما يكونون كبنيوية مشتقة من تاريخ غائر في القدم ، فدعوة اسلامية
تنفي عن كل من لا يدين بالطاعة لها ، كل صدق ايمان وكل صدق انتماء للاسلام ، وكل
ذلك يندلق تحت ظلال الايحاء بالحرص على الدين ، ويأخذ المال دوره في اللملمة والجمع
، وتأتي الطاعة للأوامر ..للأمير ، كضرورة تنظيمية ، وهكذا اندفاع في داخل المجتمع
، وبشتى الصور التي تستقطب ، وتزيد في سعة الانتشار ، وهكذا اندرجت حماس في سياقات
دعوية واجتماعية ، مترافقة مع اعلام لا يقيم قيمة لكل ما عداها ، والى أن حانت
ظروف تسمح بالتقدم للقبض على رقبة السلطة .
ولم تجد حماس حرجا في الانتفاع بوجه من نظام حرية تقوم عليه السلطة الوطنية
، وهو الانتخابات كآلية اشغال لعضوية في مجلس تشريعي ، أو حكومة ، كطريق الى ما
تسعى اليه من التمكين لذاتها في السعى الى نظام حكم تريد ، فنحن بازاء عقلية
متناقضة مع غيرها ومع قوانين تأسست عليها السلطة ، وتسعى الى مفاقمة تناقضاتها
بتفريخ مزيد من التناقضات ، التي بالضرورة آيلة بها الى أزمة بينها وبين غيرها ،
وهنا تصبح الغايات معلقة على ادارة الأزمة ، وهنا تكمن الخطورة التي تنتظر في حال
كهذا ، فليس كل منشىء أزمة أفلح في ادارتها لصالحه ، فغيره طرف فيها ، فلربما يتقدم
ويدير الأزمة على ما يوصله هو الى غاياته ، فهي فرصته ، جاءته الى عنده ، ولن
يتركها تضيع ، فهو أيضا مشغول بضروراته ، وله قناعاته ورؤاه ويسعى الى ما هو يعتقده
صحيحا .
الا أن العقلية المزهوة بخيلاء بفكرتها ، والغارقة في التعصب لها ، والى حد
التمسمر بها في ضيق أفق تعمى بصائرها على حدوده فلا ترى سواها ، نافية بالقطع أهلية
غيرها ، ظلت ما بين أزمة فكر غائبة عن بالها ، وبين فكر أزمة ، غير متنبهة لما
يتخفى ولا تراه وراء ما هي مقبلة عليه ، بقيت بعقلية الانتفاع بالحرية المتاحة
لخطاها من أجل أن تستبد ، فالاستبداد ضرورتها من أجل الهيمنة والغاء الآخر ، فلا
حوار مع الآخر بحثا عن الرأي الصواب ، بل احتكار الصواب بجملة قيامه من دون قراءة
الواقع بحوارية واسعة النطاق ، هو ما يلغي الحاجة الى هذا الآخر الذي يتجلى وجوده
كعقبة ، فلا بد بالصراع الاجتماعي الذي لا ينقطع الخلاص منه ، فالعداء للآخر مندلق
بكل سيولة يغذيها الاستفراد ، ولا كبح لجماح أوار هذا الصراع الا في حالة حس بخسارة
لربما تلحق بالجماعة فتميل الى المهادنة ، على أمل الانتفاع بها ، الى حين عودة الى
الصراع من منطلق يتأتى فيتيح لها الانتفاع به والتقدم الى ما تريد .
فحماس لم تكن يوما الحزب الذي أقر عمليا بالتزام نظام السلطة الوطنية
وحمايته ، بل الديمقراطيه الظاهرية لهذا النظام من انتخابات وتعددية ، انما هي
بذاتها التي لاحت كفرصة حماس الى التسلل ، من أجل القبض على هذا النظام ، وذلك لكي
يتاح لها الاقتراب بالتبديل من جوهره ، وعلى ما يتفق لها ، فهي حماس ، بكليتها ليست
خلوا من تصور نظام ، بل أيديولوجيتها تملي لها نظام حكم واليه تسعى ، لا الى نظام
قائم أو مطروح من جانب من يطرحوه ، فحماس مدركة على طول الطريق الى تتناقضها مع
الكل الذي هو غيرها ، وهي اذ تعي ذلك فلديها ما سوف تفعله ، وهو الفعل المؤسس على
منطق العصابة ، فاذا وضعت يدها على القوة بكليتها ، يمكنها أن تستعملها في قمع كل
من يخالفها الرأي ، فهي لا تنقصها فصاحة الاحتلال ، فهي كما هو ، من حيث التفنن في
اللغة ، فهو يعاقب ويقتل ويسجن وينفي باسم جملة قوانين هو الذي يصوغها ، وكذلك
يمكنها حماس أن تفعل ، فهي حامية القانون الذي هو في خدمة أغراضها ، وهي باللغة
الموظفة في صالحها انما هي الحامية لهذه اللغة وللقانون ، فهكذا تخاطب الناس كما
الاحتلال ، وليس للمقهور من الناس سواء عند حماس أو الاحتلال الا أن يشرب قهره ،
ويخترع مرارته ، أو يتفاقم له الظلم المستعد دوما للنزول على رأسه ، وتلك هي جملة
الاستبداد المتنافية أبدا مع الانسانية ، فجملة انسانية الانسان والفطرة التي لا
تكف حماس عن سردها على المنابر ، وفي المجالس ، فسرعان ما تضيع بجملة استبداد تنزع
اليه ، كضرورة هيمنة لخدمة فكرة تجمعها .
وقد عزمت حماس على المنافسة في الانتخابات ، وهي قارئة ممتازا الظروف التي
تحيط والتي سوف تفيض بفوزها ، فهذا الفوز يعني الكثير ، فهو الشهادة من الجميع على
أنها هي التي أخذت من الناس توكيلا ، وبأن الشرعية بيدها ، فهي الموكلة بالشأن
المتصل بالسلطة ، وما هي قائمة من أجله .. فهي الموكلة بنص الانتخابات بالشأن
الفلسطيني ، فتكون بذلك قد حصلت اعترافا دوليا بها ، وهذا الاعتراف بذاته يشكل
نقلة موضوعية ، فسرعان ما تكون له ظلاله على كثير من الأمور ، وعلى الأخص منها ،
الجهة التي تنتمي اليها حماس ، وهي حركة الاخوان المسلمين ، المنتشرة في بقاع شتى
من العالم العربي والاسلامي ، وتكون حماس هي من تأتي بدولة فلسطينية ، لا غيرها ،
فهذه قضية القضايا ، اذ من يعلن قيام دولة فلسطين ، سوف يحصل على مصداقية لسيره نحو
هذه الدولة ، فمنهجه كان صوابا ، وكل من اعترضه لم ير ماذا يخبئه المستقبل ، وهذا
ما لم ولن تكون حماس لترضى أن يكون ذلك من نصيب غيرها ، فهو الأمر الكبير الذي سوف
يعكس بظلاله على الايديولوجيا ، وعلى برنامج الحركة وعلى حاضرها ومستقبلها ،