اهم من اعادة اعمار غزة .. اعمار بعض العقول..
شكرا للرئيس حسني مبارك وشكرا للشعب المصري، وشكرا لخادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وشعب المملكة، وشكرا لامير الكويت الشيخ صباح الاحمد وشعب الكويت، شكرا لكل الزعماء العرب مواقفهم المشرفة من قضيتنا الفلسطينية، وتبرعهم السخي لاعادة اعمار غزة. وكم كنا نتمنى لو انكم انبهتم ان هناك عقولا فلسطينية ولها امتداد عربي تحتاج ايضا الى تبرعات سخية لاعادة اعمارها.
فرغم الخلافات الناتجة عن تصلب بعض حكام العرب والتي ادت الى انسحاب الامير سعود الفيصل من اجتماع مغلق لوزراء الخارجية صباح اليوم، نظرا لاصرار وزير الخارجية القطري على تضمين بيان اجتماع الدوحة في البيان الختامي للقمة، مما اضعف البيان الختامي لقمة الكويت، فجاء خاليا من قرار وزراء الخارجية العرب، وخلا من الاشارة الى المبادرة المصرية، كما خلا من الاشارة الى الية تقديم الدعم المالي لاعادة اعمار غزة. وتهامس البعض في اروقة المؤتمر حول ان غياب الرئيس مبارك عن الجلسة الختامية كان بسبب الخلافات، الامر الذي يعكس ان الزوبعة التي اثيرت حول انهاء المحاور والانقسام العربي كان مبالغا فيها. كما ان الدعم الذي كان متوقعا حول دعم خطوات لاجراء مصالحة فلسطينية جاء باهتا غامضا، وبالتالي فان التفاؤل الكبير الذي ساد اروقة المؤتمر في قصر بيان في اليوم الاول ، تلاشى في اليوم التالي، حيث خيم نوع من خيبة الامل في صفوف الوفد الفلسطيني، وكذلك في صفوف العديد من الوفود العربية.
ومن المؤكد ان تحليل النتائج التي اسفرت عنها القمة لها اهمية كبيرة، ومن المؤكد ان الكثير من المحللين سوف يتناولونها، فهناك محللين متخصصين بمثل هذه المناسبات، لكن ما يعنيني من هذه القمة هو الجانب الخاص بالاعلان عن تخصيص مبلغ قدره ملياري دولار لاعادة اعمار ما دمره العدو الصهيوني في قطاع غزة.
وهنا تبرز ايضا قضية على جانب كبير من الاهمية وهي التي تتعلق بمن سيتولى اعادة الاعمار في غزة، وهل الخلافات الفلسطينية سوف تسمح بتنفيذ اعادة الاعمار بسلاسة ام سوف تعوقها وتعرقلها، مما ربما يجعل المتبرعين يسحبون تبرعاتهم او يجمدوها او يفرضوا شروطهم او امور اخرى، ومع اهمية هذا الموضوع الا انني ايضا سوف اتجاهله، لانني ارى ان هناك موضوعا اكثر اهمية من كل ما اثير حول الحرب على غزة، وهو موضوع اعادة اعمار العقول الفلسطينية، قبل اعادة اعمار المنازل والطرقات والكهرباء واجهزة الصرف الصحي.
فالحرب على غزة اظهرت ان عقل المثقف الفلسطيني مدمرا اكثر مما هي مدمرة المنازل والمدارس والابراج والاسواق التجارية في القطاع، وهو يحتاج الى اعادة اعمار اذا لم يكن على قدم وساق مع اعمار الاحجار، فيجب ان يسبق ذلك، لانه بدون العقل السليم لا يمكن ان يحدث اعمارا في أي مجال من المجالات.
فغزة كانت عامرة قبل 27 ديسمبر الماضي، وكانت اكثر عمرانا قبل ثلاث سنوات من الان، وكانت شهدت نهضة عمرانية غير مسبوقة في اواسط تسعينات القرن الماضي.
ولكن العقل المدمر دمرها، وحتى نضمن الا تذهب المليارات العربية هباء منثورا، وان لا يعاد تدمير ما سيتم اعماره في غزة مرة اخرى بعد سنة، او سنتين، او ثلاث، فعلى من يعنيهم مصلحة ومستقبل الشعب الفلسطيني ان يضعوا خطة لاعادة اعمار عقل المثقف الفلسطيني، ومعه جزء كبيرا من عقول المثقفين العرب العربي.
فالحقيقة ان المثقف الفلسطيني يتحمل مسؤولية كبرى في التدمير الهائل الذي تعرض قطاع غزة الشهر الماضي، وانه ساهم مباشرة في عملية التدمير، وبرقبته خطايا ودماء 1300 شهيد وشهيدة سقطوا في معركة عبثية كان يمكن تفاديها بسهولة لولا نفخ بعض المثقفين في بوق ثقافة المقاومة العبثية.
ان كل من في رأسة بعض العقل يعرف ان للمقاومة اسس وقواعد واصول وقيم وبرامج وخطط وتكتيكات وتحالفات واسلحة محددة، وطرق دفاع، وخطط هجومية، وطرق امداد وطرق انسحاب، ووسائل لحماية المدنيين، وعلاج من يصاب بالمعارك، واماكن ايواء لمن يتعرض منزله للتدمير، وخطوط اتصالات ومواصلات، واجهزة توجيه، ومؤسسات اجتماعية، ومخازن للطعام، واخرى للادوية، واخرى للحاجات الضرورية، وغيرها من الاسس التي لا يمكن ان تتم مقاومة بدونها.
ومن يعرف هذه المسائل في أي مجتمع هما جهتان، الاولى هي الجهة الحكومية المدنية والعسكرية المعنية بشان المقاومة مباشرة، والجهة الثانية هم المثقفون الذين من مهمتهم بث الخطابات التعبوية، والثورية لرفع الروح المعنوية للجماهير، ومواساتها بسبب الخسائر الفادحة التي سوف تتعرض لها.
واذا كانت الجهات الرسمية الفلسطينية في فصائل المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس لم توفر شيئا من كل ما سبق مما يتطلب تشكيل لجنة تحقيق على جناح السرعة لمحاسبة كل من له علاقة بهذا الحجم الهائل من الخسائر البشرية والمادية، فان المثقفين يحتاجوا الى وقفة تأمل يراجعوا فيها ضمائرهم ، ويحكموا فيها عقولهم ، وان يعترفوا بصراحة بدورهم في هذه المذبحة، وان يقدموا لاهل الشهداء والجرحى ولشعبنا كله الاعتذار.
فعندما يسخر المثقف قلمه وطاقته لتهييج الجماهير وبث ثقافة العنف والقتل في صفوفها فانه يكون يسوقها نحو المجزرة، لان ثقافة العنف تختلف جذريا عن ثقافة المقاومة، الاولى تشحن العواطف وتخلق زعران شوارع، وتؤدي الى تسيب امني، والى تشكيلات عصابية اشبه بالتشكيلات المافيوية، ويتسلل الى صفوف مسلحيها كل انواع الانتهازيين والمرتزقة والباحثين عن مصدر رزق.
بينما ثقافة المقاومة تبني منظومة شاملة، على قاعدة ان المقاومة تتضمن اشكال لا حصر لها من الاعمال والمهمات النضالية التي تؤدي بمجموعها الى اجبار العدو على الخضوع لارادة المقاومين.
لكن معظم المثقفين اليساريين من اصحاب الجمل الثورية والعبارات الكلاسيكية والفهم القديم للمقاومة ظلوا ينفخوا في عواطف الشعب فيشحذوها ويهيجوها باوهام وقيم لا وجود لها في الواقع، ويظنوا انهم اصبحوا تقدميون وثوريون طالما انهم استخدموا في مقالاتهم كلمة لينين او جيفارا او الثورة الفيتنامية او الجزائرية للتدليل على صحة منهج المقاومة والعبودية لمنهج الكفاح المسلح باعتباره الطريق الوحيد لتحرير فلسطين.
ولا يدرك هؤلاء ان هوشي منه لو انه عاد للحياة ووجد بلاده فيتنام محتله لوضع منهجا جديدا واساليب جديدة واسلحة جديدة، واقام تحالفات جديدة، وعلاقات جديدة. وكذا الامر بالنسبة للجنرال جياب فان من المؤكد على ضوء الاسلحة الجديدة ووسائل الرصد والتجسس والات الاستشعار عن بعد والقنابل الذكية والصواريخ التي تطلق نيرانها وتصيب اهدافها بدقة متناهية على بعد الاف الكيلو مترات، لا شك انه كان سيضع تكتيكات جديدة واساليب جديدة للحرب.
لكن مثقفينا الثوريين جدا لا يعنيهم كل هذه الامور، لا يعنيهم سوى ذكر اسم جيفارا او جياب ليدلل الواحد منهم على انه مثقف ثوري.
ونسي او انه لا يعرف من الاساس، ان المثقف الثوري هو الذي يقود شعبه نحو افضل الخيارات، واكثرها سلامة لقواه وامكانياته وليس الى الانتحار والموت والدمار.
ان المثقف الثوري يمجد الحياة، ويمجد التطور، ويمجد التغيير الى الافضل ، ولا يمجد الموت ويسكب اهاته على جثث الشهداء شعرا ونثرا، بعد ان يكون قد اوقع بها في محرقة غير متكافئة.
ان المثقف الثوري والوطني والتقدمي هو الذي ينشر الوعي في صفوف الجماهير مما يمكنها من ان تحسن خياراتها، فتختار لقيادها الاكفأ والاكثر خبرة، والاكثر وعيا وقدرة على ادارة المجتمع في اوقات السلم واوقات الحرب.
لكن الكثير من مدعي الثقافة الوطنية والتقدمية والثورية قادوا شعبنا نحو المزيد من الجهل، والمزيد من ثقافة العنف العبثية، مما جعلهم يسقطون في براثن ائمة المساجد ، وخريجي كليات الشريعة، واساتذة التربية الدينية من خريجي دار المعلمين.
فمتى كان باستطاعة خريج كلية الشريعة او امام مسجد ان يقود ويبني مجتمع ويهيئه للتعامل مع ظروف السلام وظروف الحرب.
ان ائمة المساجد وخريجي المعاهد الدينية وكليات الشريعة تقوم عقيدتهم على اساس ان الدنيا فانية، وبالتالي لا ضرورة للاهتمام بها، وانما يجب العمل لضمان الجنة، وهذا يعني ان التركيبة النفسية لهؤلاء لا تجعلهم صالحون لقيادة مجتمع وبناء دولة ومواجهة عدو وبناء مستقبل.
لكن المثقفين المدعين وجدوا باستخدام ائمة المساجد ودراويش الحركات الدينية لعبارة المقاومة حلفائهم وساهموا بحملة تضليل هائلة مفادها ان من ينادي بالمقاومة هو الاصلح لقيادة الشعب، ولم تمكنهم ثقافتهم القاصرة والمحدودة، والتي تنفي عنهم صفة التقدمية والثورية، وربما الوطنية ايضا لتضعهم في مصافي المثقفين الدينيين، لم تجعلهم قادرين على التمييز بين المقاومة التي يقودها علماء وخبراء في كافة شؤون المجتمع، وبين مقاومة قائمة على ثقافة "وما النصر الا من عند الله فتوكلوا على الله وعليه ان ينصر المؤمنين"، أي ثقافة هذه واي مثقفين.
هذا العقل الذي يسطر على عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين بحاجة الى اعادة اعمار، ومن لا يستجيب لعلميات اعادة الاعمار يجب دفنه واهالة التراب عليه.
فمن ابسط الامور واكثرها بديهية ((ويا للعيب ما زلنا نخاطب المثقفين بالبديهيات) لنقول لهم ان الرجل الذي لا يستخدم عقله في تربية ابنائه سينتج ابناءا مشوهين، وان الام البدائية تخرج ابناء بدائيين، وان التاجر اذا لم يتمكن من وضع قواعد سليمة لتجارته فانه سوف يخسر، وان المزارع الذي لا يعرف قوانين الري سوف تموت زراعته، وان السائق الذي لا يعرف الطريق حتما سيتوه، وان من لا يعرف قيادة السيارة فمن المؤكد انه سيعمل حادث، وان وان وان الف مثل يمكن ان يساق في هذا الصدد.
فاين المثقفين الفلسطينيين من كل هذا .. زهم منشغلين بشدة في ترويج دائم لثقافة العنف..؟
اتحدى أي باحث ان يجد مثقفا فلسطينيا قدم مشروعا او برنامجا في أي مجال كان، واتحدى ان يجد غير النقد في معظم الكتابات.
اتحدى أي باحث ان يجد امة في الارض لديها هذا العدد من المثقفن البارعين جدا جدا في ثقافة الشتيمة، كما هم المثقفون الفلسطينيون، سواء من ينطبق عليهم صفة مثقف بالفعل، او المدعين وهم الاغلبية.
ان الكثير جدا من المثقفين الفلسطينيين يظن انه يرتقي الى اعلى درجات الثورية بقدر ما يستخدم من شتائم في حق السلطة الفلسطينية ورموزها، مع العلم ان الكثير منهم حدد موقفه من السلطة لانه لم يتمكن من الحصول على وظيفة في احدى مؤسساتها. والكثير منهم معروفة ملفاتهم وسيرهم الذاتية.
هؤلاء المثقفون عقولهم بحاجة الى اعادة اعمار، والى اعادة تهيئة، حتى يمكن استخدامها بفعالية ايجابية.
وحتى لا يعتبر البعض انه اكتشف ثغرة هائلة فيما ندعو اليه ويتساءل وهل اعادة اعمار العقول مطلوبة فقط للمثقفين من معارضي السلطة..؟
فارد عليهم بالتاكيد لا .. بل تشمل معظم المثقفين ومنهم معارضون للسلطة ومنهم مؤيدون ، ومنهم يفتخرون باستقلاليتهم وهم ليسوا مستقلين، ومنهم من يضع نفسه فوق الجميع بتعال وغرور ويوزع نصائحه يمينا وشمالا.
وقد يسالني البعض وماذا تريد ..؟ فكما يبدو انني اتهم الجميع بالقصور ..!! فمن هو غير القاصر من وجهة نظري..؟
فارد لاقول .. لا اتهم الجميع بالتاكيد فهناك نخبة من المثقفين الفلسطينين يجاهدون بقوة وبكل ما لديهم من امكانية "لتعقيل" العقل الفلسطيني، اما العقل الذي يحتاج الى اعادة اعمار فهو كل من يساهم بتعميم ثقافة العنف بالمجتمع، وتمجيد الموت، وتفضيل الاخرة على الدنيا، وتمجيد عسكرة المجتمع وابعاده عن التمدن، ومن لا يؤمن بالنضال السلمي ، ومن لا يؤمن بان المقاومة ليست فقط سلاح وعسكر وقتل وقتال.
ان العقل الذي يحتاج الى اعمار هو الذي يؤمن بان الفلسطينيين عشاق موت، وان كلهم يتمنون الشهادة، وان المقاومة هي مواجهة الصواريخ المدمرة بصدور عارية، وان مقتل وجرح 6700 انسان ، وتدمير 20 الف بيت على روس اصحابها هو انتصار.
يا ليت قمة العرب وضعت ميزانية لاعادة اعمار عقول بعض المثقفين الفلسطينيين وانصارهم من العرب، فان ذلك اكثر جدوى من اعادة اعمار المباني والطرقات.
ملاحظة : لم اتحدث عن مقفي التيارات الدينية فهم لهم شأن اخر في مقال اخر
ابراهيم علاء الدين
alaeddinibrahim@yahoo.com
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/