معزوفة على كونشيرتو القدس بقلم / توفيق أبو شومر
نغمات أدبية على وقع كونشيرتو القدس لأدونيس
كونشيرتو القدس للشاعر الكبير أدونيس ليست معزوفة شعبية تراثية ، وليست لحنا شرقيا ، وليست سيمفونية غربية ، ولا تعزفها الآلات الموسيقية المعروفة، ولا وجود فيها لنوتة مكتوبة محفوظة،كما اعتاد عازفو الموسيقى أن يفعلوا، فلحن الكونشيرتو عزف لُغوي منفرد غير معتاد يقوم فيه الشاعرُ الكبير أدونيس بدور البطولة ويتقمصُ هو أيضا أدوارَ العازفين والملحنين، ويصنع آلات طرب موسيقية جديدة ، ويستنسخ مئات الصور من صورته الخاصة، فيخلق كورس الإنشاد، والراقصين ،وهو أيضا يقوم بدور الملقن وراء خشبة المسرح ، وهو وحده جمهور الحاضرين، والسامعين!
أدونيس في هذا الكونشيرتو دخل القدس من كل أبوابها ،بعد أن حَصَّن نفسه بأذونات الدخول من كل زعماء التاريخ وقادة المعارك،وفاتحي البلدان والأقطار، وفقهاء الأديان ومتفيهقيها، وزائري القدس ونساكها وعابديها، وساكنيها وسدنتها ومدعي ملكيتها، وشعرائها ومنشديها.
من يسمع سيمفونية القدس يظنُّ بأن منشدها ليس سوى باني أسوارها، وحافر أنفاقها، وصاحب دكاكينها وفنادقها وحارس أملاك غائبيها، ومحررها وبطلها المنتظر، وسادنها، وناسج سجاجيدها الحمراء، فهو يجلس على بوابات القدس يغني بحروف الأولين وجمل الغابرين ، وهو أيضا يقوم بدور المُعزِّي الذي يواسي الخارجين من بواباتها عن عذاباتهم وآلامهم ، والملقن لترانيمها وعزائمها وتمائمها للمستبشرين الحالمين الطامعين الآملين الداخلين إليها.
أراد أدونيس في بداية النغمة الأولى من الكونشيرتو أن يفصّل من الأنغام مسرحية غرائبية، لا تلتزم بأصول المسرح وتقاليده المتبعة، فغدتْ المسرحيةُ تمردا على كل أنماط المسرح ، فهو يصنع ديكور المسرح بأصباغه القلمية الخاصة فتبدو للناظر البعيد ألوانا، غير أنها في الحقيقة ليست سوى حروفٍ حاكها مخرجها على شكل ألوان، ونظمها في سلسلة من اللوحات .
فهو يعزف قبل فتح الستارة في الفصل الأول لحنا إلهيا خاطه وفق تفاصيل الجسد المقدسي الإلهي:
انظروا إليها تتدلّي من عُنقِ السَّماء.
انظروا إليها تُسيَّجُ بأهداب الملائكة
اقرعوا بابَها حُفَاةً،
يفتحهُ نبيٌّ يُعلّمكم السّيرَ، وكيف تَنحنون.
مَسرَحٌ يقودُه القديرُ الجَبّار.
ويفعل الربّ هذا كلّه من أجل أبنائه!
يدخل أدونيس مسرح القدس مسكونا بهالتها القدسية، ويقف في وسط المسرح وحيدا إلا من ذاته، ويخاطب حشدا غفيرا أجلسه في قاعته، ويُحرك بحروفه بقية الممثلين الساكنين فيه، وهو في الوقت نفسه مملوء بوحشةٍ صحراوية خانقة، وسخرية مُرة حاكها من عذابات السنين وألم مُعتَّقٍ يسكنه، فشل كلُّ أطباء العالم في معرفة سر هذا الألم الدفين، غير أن أدونيس هو الوحيد الذي اكتشف وهو يعزف هذا الكونشيرتو، أن علاج ألمه المبرح لا يكون إلا بعزفٍ وسط مسرحٍ كونيٍ هزليٍ، لا مثيل له في كل أنحاء العالم.
هكذا إذن ابتدع أدونيس مسرحه الطريف وسط شوارع القدس وأزقتها ليعرض بضائع الأولين والآخرين، غير آبه بالهواء المعتِّق المعلب في القدس ، والذي لم تفلح كل رياح القرون من تغيير لونه ورائحته، فهو هواء تليدٌ ، ما يزال يُشعلُ بعتمته وسواده العالمين، هواء يعيد الحياة للموت، ويجلبُ الموتَ للحياة، في هذا الهواء نسمات القرون الغابرة، وتفاصيل كل بقايا رفات الغابرين!
هكذا يقف أدونيس فوق مسرحه بجوار الصخرة بالنيابة عن القدس كلها وبالأصالة عن كل الأديان، وبلسان كل الناطقين ، فالقدس ليست مدينة جامدة كما المدن الأخرى، بل إنها المدينة الوحيدة الناطقة بلسان كل الأمم، وهي بعتمتها وذبولها وقتامتها، تُعلِّم كلَّ مدن العالم كيف يكون الحوار والنطق والحديث.
يقف أدونيس على مسرحه ، مسرح الآلهة، ينشد أناشيدها، ويعيد إليها ألسنتَها ولغاتِها، وهو يقتفي آثار أقدام العصور السالفة، غير أنه يُغلق ستارة الفصل الأول على خرابها الأول، حين يتحول عابدوها إلى أخاديد وأنفاق وسراديب:
" شكا بيتُ المقدس إلى ربه الخراب"
فأوحى الله إليه لأملأنك خدودا سجدا تحن إليك"
ويستخدم أدونيس في فصله الأول رمزا حديثا للخراب، حين يحول معدن الأورانيوم إلى عصير سائل ليسيل جاريا في كل شوارع القدس، وليبرهن على خراب الخراب، ودمار الدمار، وتعزف موسيقاه في الفاصل الأول عقب إسدال الستارة موسيقى الخراب، حينما تتحول السماء إلى ثقب سري في سقف التاريخ، ويختم الموسيقى بلازمة يرددها كورس الإنشاد الكامن في بطل المسرحية عن الموت الذي يصير قفرا، والحياة التي تصبح قبرا :
" الأحزمة، الأقنعة، الخنادق، الجرافات، القنابل، الصواريخ، الحقائب، الدواليب"
" تلك هي الأيام المقبلة.. ربما لهذا تتحول السماء إلى ثقب سري في سقف التاريخ"!
"لماذا الناس فيه اثنان: ميتٌ يقيم في القفر، وحيٌ يقيم في القبر؟"
تفتح ستارة المشهد التالي على البطل وهو يقف في زاوية بعيدة من المسرح لا تظهر من صورته سوى العصا التي يصنع بها دوائر في الهواء، تشير إلى العبثية واللامعنى والديماغوجيا، تختلط دوائره بأصوات أبقار تخور وأغنام تثغو وأفراس تصهل، تظهر في وسطها جموعُ تتماهى مع ما حولها، غير أنها ترفع سعف النخيل، وتتداخل في الصورة سيوفٌ وتيجانٌ، وأصوات غير واضحة تنشد:
قومي استنيري يا أورشليم
يعود البطل من جديد مستهينا بالحشود إلى واجهة المسرح وهو يتساءل:
ما هذا الرأس الذي ينخله الهذيان؟... ما هذا الجسم الذي تنخره مخالبُ التوهم.. هل الإنسانُ هو نفسه خرافة الدم واللحم؟
وما إن تنتهي آخر كلماته حتى تعزف سيمفونية البطل اللازمة، التي ترافق كل مشهد من مشاهد المسرحية، وكل لازمة من الكونشرتو تعكس تماثلا بين أحداث المسرحية ، وبين ديكورها وألفاظها ، ومكنوناتها.
وتنطفئ أضواء المسرح رويدا رويدا على وقع اللازمة:
ثعابين بأجنحة ومخالب، خنازير، مصابيح، قرونٌ ، وعولٌ، أوردة وشرايين، أدوات وآلات يحفظها الغبار في ثيابه وتحت وسائده"
وتسدل الستارة على وقع أغنية جماعية ترددها جماهير المشاهدين الكامنين في بطلها، تلخص موقفه من القدس منذ بدايتها البرونزية، وحتى نهايتها التفجيرية :
" يا قدس يا قدس.. في عصرك البرونزي كانت التفاحةُ امرأة
في عصرك النفطي الإلكتروني صارت التفاحة قنبلة
تحولٌ لا تتجه فيه الصواريخ إلا نحو بيوت العُشّاق"
يعيد أدونيس فتح الستارة مرة أخرى معتمرا عمامته العربية في صورة الملك الضلِّيل،امرئ القيس معلنا بدء عصر الكلمة الممزوجة بالدماء، وكان ديكور المسرح مكونا من خيام الوبر العكاظية المنسوجة من وبر المعلقات وصوف الأشعار، بينما يقف على باب كل خيمة لاعبون ينثرون قصائدهم على الرمال، تبركا وتحديا واحتفاء، وكانوا يشعلون بخور المسك في فضاء الخيام المنصوبة على مسرح آلهة أدونيس، وهم يحلمون بعطر القدس حتى لو كان للقدس شكلُ الموت، فقد كان العرب يصنعون نعوشهم، وهم في طريقهم إلى القدس قبل الأوان:
" ملائكة آثروا أن ينقلبوا إلى عشاق.. وأن يكون المسكُ العربي فضاءً لتشردهم بين الحجاز والقدس"
" هكذا سنظل نصنع النعوش قبل الأوان.... ندهنها بعطر ما قبل التكوين.... ونقطع باسمها وريد الأرض... لكي نغذي شريان الغيب"
"يا قدس يا قدس عجبا لا تلدين إلا نفسك"
"لصدرك شكل القبر، ولحنجرتك شكل القنبلة"
"لا شيء تعلمينه إلى أبنائك إلا الموت"
"ليس في جسدك غير التصدعات... ودمك في احتضار بطيء"
وتخرج من الخيمة الشعرية الوبرية عروسٌ فتية موشومة بوشم الصحراء، محفوفة بالمحظيات الجميلات، يساعدنها على لملمة عباءتها المُقصَّبة بالأشعار،وكان البطل يشير إلى جهة السير، حيث القدس بيت محبوبها،وما إن وطأت قدماها ساحات القدس، حتى تحولت القدمان إلى قيدين، وأصبحت الطريق وعرة، لا تحتمل السير، وتحولتْ الورود في بيت المحبوب إلى شِباك تطوق خطواتها، وتنزع عنها ثوبها، وتتساءل عروس الهودج ساخرة:
" هل عليّ أن أخيط من جديد ثوبا آخر لكل زهرة؟"
وتنطفئ أضواءُ المسرح من جديد على نغمة جديدة أخرى من نغمات الكونشرتو، بصوت القدس نفسها، صوتها المملوء بالدخان والقهر:
" توتر، مقتل، قبض، إسعاف، مطافئ، ضحايا، إدانات، منع، تمرد، خرق، استحقاق، معتقل اعتقال،سجون، هدم، احتلال"
وقبل أن يغلق أدونيس الستارة ، وقبل أن ينهي صوت القدس المحشو بأصوات البارود وهدير الجرافات، يُدير ظهره لجمهور المشاهدين، ويسير نحو مدخل مسرحه البعيد، وهو ينتحب بمرارة على وقع لازمة صادمة تقطر ألما وحُرقة:
" لماذا أنا المقبل إليك، لا أعرف أن أسير... إلا إلى الوراء؟"
لم يتوقع جمهور الحاضرين أن يعود البطل إلى مسرحه الإلهي بسرعة كبيرة ، بدون أية موسيقى، ولا أحد يعلم كيف تمكن البطل من أن يُغيِّر كل ديكور المسرح ويزيل الخيام المنصوبة والبخور والهوادج وضاربات الودع وخيمات سوق عكاظ ، وتجار الإبل والأغنام ويطرد كل زعماء القبائل والتجار والشعراء والنقاد ، وينحت بدلا من ذلك تمثالا حجريا بحجم المسرح على شكل هدهد يفرد جناحية وينفش عرفه اللازوردي ،ويُغيّر كل ألوان أوبار الإبل ، ليصبح لونُ المسرح أحمرَ قانيا بلون الدم، وهو ينظر إلى السماء يعاتبها على لون الدماء وجُثث القتلى والخراب والدمار والهواء الملوث برائحة الموت ويصيحُ بنبرة استهزاء:
" إلى متى ستظلين أيتها السماء نائمة بين يدي أرض حمراء؟"
" ثلاثة وافدين مقابل مقيمٍ واحد!
المقيم يرحل، والوفد يقيم ... توازنٌ ديموغرافي "!
" لا شرق في شرق القدس... والقرى حولها سديم منعزلات .. تحف بها الشرطة من كل نوع"
إنها القدس تنشقّ وتنهار... المجد لاصطبلات سليمان... اسرحي فيها كما تشائين وحمحمي يا خيول الملائكة"!
" هل سنظل إلى الأبد نُصعق ونُجرُّ وراء جحافل أنسابنا؟"!!
وبسرعة أيضا يُطفئ أضواءَ مسرحه مرة أخرى، بعد أن ترك أسئلته المريرة تدور في المكان بحثا عن إجابات، ثم تعود إلى كنانته مرة أخرى معلنة استسلامها وخضوعها وفشلها في العثور على إجابات، على وقع لازمة مريرة جديدة للكونشيرتو مكتظة بالدمار والخراب والقتل والموت والإرهاب :
"صواريخ، عصابات، طوائف، طقوس، هجمات، ألغام، قصف، انشقاق، سيادة، جثث، اغتيالات قبائل، نفط، يورانيوم، اختراق الصوت، ذخائر، تحقيق، تهريب، مفاوضات، خيانة، تعذيب، نزوح "!
وتُفتح ستارةُ المشهد التالي من جديد على صورة البطل ، وهو يلبس ثوب الفيلسوف زرادشت، وينظر إلى صورة الشاعر محمود درويش المرسومة بحروف المكان، المزركشة بريشة الزمان، مكتوبٌ أعلى الصورة:
" على هذه الأرض ما يستحق الحياة"
يدير البطل ظهره لصورة محمود درويش ، ويتجه نحو الجمهور في حركة مفاجئة، تنمّ عن رفضٍ مُطلق لشعار درويش، وهو يردد :
" هأنت يا أورشليم تتزلجين على ثلج المعنى، والسماءُ فيك جِنٌ وعفاريت، يهيمنون على محيطات اللغة"!
وفي المشهد التالي، يفتح ستارته وهو يرتدي زي الفقيه الواعظ ، ويعدّل من عمامته الطويلة البيضاء، ويرخي عباءته السوداء على ثوبه الطويل، وهو يلقى خطبته في جموع المصلين، معدِّدا فضائل القدس:
فقد كلم الله موسى في أرضها، ، وتاب الله عليه وعلى أنبيائه فيها، ونصر الله رعيته فيها، وبشر الله كل خلصائه فيها، فهي أرض المحشر والمنشر، منها يُرفع المؤمنون الصادقون إلى السماء، وإليها يُهاجر المتقون ، وفي ليلها يسرى الأنبياء الطاهرون.
ويُسدل ستارة المشهد على وقع لازمة تراثية شعبية:
" تخربُ الأرضُ كلها، ويعمرُ بيتُ المقدس" !
تُفتح ستارة المشهد التالي، وتظهر صورة البطل ، وهو يرتدي ألبسة عديدة،فهو يلبس زي حاخام يحمل أسلحة الجنود، ويلبس قميص فلاح ، وقلنسوة فيلسوف ، ويشرع في محاكمة القدس وفق قوانين الفلسفة والجنود والفلاحين، فلا يجد فيها قانونا يمكن لأي منهما أن يطبقه في القدس.
فالمدينة تخبئ في أزقتها قوارير الدماء، أما الأطفال الأبرياء، فهم يدنسون الحواجز العسكرية الطاهرة، ويعاقبون بالسجن حتى الشيخوخة ! كما أن أحجبة النساء نوعان، حجاب حريريٌ وآخر فولاذي!
والحاخامون ينشدون من كهوف التاريخ نشيد فنون اقتناء العبيد والإماء، من عصر آباء الآباء إلى أبناء الأبناء، ونشيد إعمار الأرض اليباب، بعد تطهيرها من الأغراب!
ويختتم أدونيس هذا المشهد أيضا بلازمةٍ من سيمفونيته:
" ويلٌ لمن يبني مدينة بالدماء، ويؤسسها بالإثم !"
وفي المشهد التالي تُفتح ستارةُ أدونيس على ساحة كبيرة من نقوش التاريخ يتوسطها حائط المبكى ، وعلى كل الجدران أختامُ الذين بنوها وأرقام تشير إلى سنوات بنائها، وأسهم تدل على أنفاقها وطرقها، بينما يقف أدونيس فوق أحد جدرانها، وهو يحمل عصاه ويؤشر بها إلى الجدران واحدا وراء الآخر:
حائطان، هما حائط واحد معطَّر، عِطرُهما يعود للأنبياء والرسل، غير أن لون الحائطين أحمر وظلهما يلبس عباءة السواد، وأنفاق القدس تتجشأ الموت، وتبتلع الحياة. ويشير بعيدا إلى مغارة سليمان، وأرض الصبرة، وسوق الخواجات، وبرج اللقلق، وعين سلوان، ووادي النار، ويصمت، ثم يقول، وهو يشير إلى طريق الألام:
" لا شيء يُخلق في فلسطين، إلا بدءا من هذه الطريق"!
ثم يشير بعصاه إلى دروب ديكامنوس ، وجيش بيزنطة ، وقادة الأمويين ، وخلفاء العباسيين، وإلى حاملي الصليب، والأيوبيين ، والمماليك والإنجليز.
وحين يرسم البطل الابتسامة الأولى على وجهه وهو يُنشد:
" للسحر في فلسطين عينُ لا تراها العين"!
فإنه يفاجئ مشاهديه وهو يطفئ ضوء المشهد على وقع نغمة جديدة من الكونشيرتو تقول:
" القبرُ مِنَىً قدسيٌ"
" لا مهربَ من نفقٍ، إلا عبر نفقٍ آخر"
" المستقبلُ أنفاقٌ"
" الأطفال في هذا المستقبل صناديق دُمى، عُلبٌ ملغومةٌ، من النفق تخرج أسرابُ السماء، لكل اسم زيٌّ ، لكل زيٍ قبرٌ كُتبتْ عليه هذه الشاهدة:
" من التراب جاء العرب، وإلى الترابِ يعودون"
" النفق نعشٌ آخر" !
يغير الممثل الوحيد ديكور المشهد التالي، فيلبس هذه المرة درع القدس، ويضع على رأسه مفاتيح أبوابها، وهي تتدلى فوق عينية كالدموع ثم ينشد باسمها تباريحها:
"لماذا كلُ ذرة في رماد فلسطين جرحٌ مفتوح؟ "
"هل تاريخ فلسطين خريفٌ هاجر خارج الفصول؟ "
" لماذا إذن تُشعوذُ الكتب... لماذا يوضع لكل حرف قيدٌ... ولكل لسان لجام؟"
يغادر البطلُ المسرح ويطفئ الأنوار ويتركه خاليا، إلا من سواد الجدران والشوارع والأنفاق، ويرسم أعلى الجدران بإصبعه دائرتين على شكل عقال عربي يتوسطه لسان متحرك:
نقتحمُ، نحن العربَ، المُدنَ لكي نغنّي بصوتٍ واحد:
بسريرٍ مُفْرَدٍ، نفتح فندقاً،
بفندقٍ مفرَدٍ، نصنع قارّةً.
أقدامنا أكثر علوّاً من صلواتِنا!
والشمس نفسها تغارُ مِنّا!
الحمد والشكر لله الذي خَصَّنا بهذه الصّفات"!!
مقطوعات الختام
تفتح الستارة عن المشهد الأخير، ويظهر البطل من جديد، تارة في صورة عجوز هَرِم ، يغطي شعرُه الأبيضُ فوديه، وتارة أخرى في صورة طفل رضيع يبحث عن ثدي الأم ، ويجمع الصورتين في صورة فيلسوف حكيم يعتلى منصة الحكمة، وينحني أمامه الأتباعُ والمريدون إجلالا واحتراما:
: لا أومن بعقل الجموع.. أومن بالضوء ، يشعُّ يخترق ويشير... وما هذا الواحد الذي لا يحضر إلا في جنازة ، أو على عرش؟!
بعثر نجومك على القدس أيها الليل
أنبياء اليقظة ينامون بين أشلائها
" هل أحدُ يعرف القدسَ غيرُ النجوم؟
عبثا أحاول أو أداوي السماء"!
هل سقطت الكتب المقدسة في الجب؟
التقنيات المسرحية الُّلغوية
استخدم أدونيس في مسرحيته تقنيات عديدة، كانت غايتها إبراز مدينة القدس على خشبة مسرحه الجغرافي الغرائبي، وظل يعزف أنغام القدس الديموغرافية العبثية، مستعينا بآلات طرب جديدة، وبفرق من الممثلين ، ولتحقيق غاياته وظّف التقنيات التالية:
1- تقنية المصطلحات الدينية المستمدة من الكتب الدينية المقدسة ومن الكتب التي تقع على هامش الدين في كل الأديان السماوية الثلاثة، الإسلامية ، والمسيحية واليهودية، مع تعديلها لتلائم عرضه المسرحي الهزلي والعبثي:
( اقرعوا بابها حفاة)
( لأملأنك خدودا سجدا)
( في بدء العالم كانت الكلمة)
( لم يستشهد عبدٌ قط... إلا وهو يسمع آذان مؤذني بيت المقدس)
(تخرب الأرض كلها، ويعمر بيت المقدس)
( قومي استنيري يا أورشليم)
( ليست القدس في عقل المسلم أرضا، بقدر ما هي سماء)
( من الأمم الذين حواليكم تقتنون العبيد والإماء، هؤلاء تأخذونهم لكم وتورثونهم لبنيكم من بعدكم فيستعبدونهم ماداموا أحياء)
( باب المقدس أرض المحشر والمنشر).
2-أما التقنية الثانية من تقنيات المسرح فهي تقنية النحت اللغوي الغرائبي والرسم السريالي باستخدام ألوان شفَّافة للرؤى والأحلام والآمال .
( أُمرت أن أقدم لكِ ( القدس)عصير اليورانيوم)
( تتحول السماء إلى ثقب سري في سقف التاريخ)
( مسرح يقوده القدير الجبار)
( سماؤك نقشٌ لُغوي)
( نقطع باسمها وريد الأرض، لكي نُغذي شريان الغيب)
( في القمر شق أيروسي تحفره السياسة)
( لصدرك شكل القبر، ولحنجرتك شكل القنبلة)
( أنفاقٌ تتجشأ الموت، فيما تبتلع الحياة)
( هل يكفيها أن تثقب دموعُها صخرَ التكوين؟)
( سقت النبواتُ عطش الفوضى، ورمتْ زهورها في الشوارع)
( هل أحدٌ يعرف القدس غيرُ النجوم؟)
-3 أما التقنية الساخرة الثالثة، فهي المرارة والألم، وتقنية فيلسوف خبر الحياة وعاصر همومها ، تقنية السخرية القاتمة والنقد اللاذع المصوب نحو التاريخ.
فالمدينة الثاوية في النص الأدبي رمزٌ من رموز الحضارة، غير أن الكونشيرتو ظلّ يؤكد على رغبته في تجريدها من أسرها التاريخي لتتحول إلى لحنٍ إلهي راقص نابض بالحياة .
واستخدم عازف الكونشيرتو أوتاره اللغوية الساخرة فأرغم الجمل أن تُظهر لسانها للقارئين بين كل فاصل مسرحي، وفاصلٍ آخر:
( يفعل الربُ هذا كله من أجل أبنائه !)
( قدرُ النمل أن يتحدث مع سليمان، ولم تقدر الكواكب، ربما لهذا يتنبأ النمل!)
(لا أعرف أن أسير إلا إلى الوراء !)
( وبذاك الطريق سارت القطعان عددٌ لا يُحصى من الزعماء الكِباش، والنعاج المسمنة، والخراف والحملان المجزوزة الصوف، والأوز البري والعجول المخصية متوسطة الحجم، والأفراس المصدورة،والأغنام طويلة الصوف!)
(ما هذا الرأس الذي ينخله الهذيان؟!)
( المجد لاصطبلات سليمان، اسرحي فيها كما تشائين، وحمحمي يا خيول الملائكة !)
( هل سنظل إلى الأبد نُصعق ونُجر وراء جحافل أنسابنا؟)
( ما أشد في هذا كله بؤس الإنسان!)
( يا قدس عجبا لا تلدين إلا نفسك... لاشيء تعلمينه إلى أبنائك إلا الموت !)
( المستقبل في القدس أنفاق، والنفق نعشٌ آخر) !)
(من التراب جاء العرب، وإليه يعودون!)
( هل تاريخ فلسطين خريفٌ هاجر خارج الفصول؟)
( لماذا إذن تُشعوذ الكتبُ، لماذا يوضع لكل حرفٍ قيدٌ، ولكل لسانٍ لجامٌ؟!)
( لماذا لا تُرى السماءُ إلا مملوكة وموسومة وموشومة ومحروسة ومسودة، أهي زريبة اللغة، أهي خزانة لذهب النبوات؟!)
( نحن العرب... أقدامنا أكثر علوا من صلواتنا، والشمس نفسها تغار منا!)
( هل سقطت الكتبُ المقدسة في الجُب؟!)
( أنبياء اليقظة ينامون بين أشلائها!)
( هل أحدٌ يعرفُ القدسَ غيرُ النجوم؟!)
4-أما التقنية الرابعة ، فهي إلقاء الشعارات ( شعارات الكونشيرتو).
شعارات أدونيس ليست شعارات معتادة، وإنما هي حصيلة معرفية واسعة تستمد تفاصيلها من التراث والدين والفلسفة والشعر والأدب والتاريخ ومن التقاليد والعادات أيضا:
( سنظلُّ نصنع النعوش قبل الأوان)
( لا أعرف أن أسير إلا إلى الوراء)
( السماءُ نائمة بين يدي أرض حمراء)
( أكداس كتب ترزح تحتها رؤوس لحجج واهية خطَّها قلمُ المعجزة)
( في عصرك النفطي الإلكتروني صارت التفاحةُ قنبلة)
( المقيم يرحل والوافد يقيم، انغرس أيها الوافد ، انقلع أيها المقيم !)
( ماذا لو أحصينا عددَ الجماجم التي تدحرجت باسمك في أنفاق التاريخ، وعلى مدارجه،ألن تكون كافية لكي نرفع سماء أخرى بحجم السماء؟)
( ليس في جسدك غيرُ التصدعات، ودمك في احتضارٍ بطيء)
( كل زقاقٍ في القدس مستودعٌ لدماء يناقض بعضُه بعضا!)
( الأطفالُ في هذا المستقبل صناديق دُمى، علبٌ ملغومة)
-5أما التقنية الخامسة المستخدمة في السيمفونية فهي التحدي، تحدي واقع القدس والتمرد على حاضرها الأليم المستمد من ماضيها الدامي، ومستقبلها الحالك السواد، فقد استخدم فيها الشاعر تعبيرات التمرد على الكتب الصفراء والتاريخ المملوء بالأحقاد والنزاعات والحروب، وقد ظهر ذلك جليا في كل فواصل الكونشيرتو المملوءة بألحان القتل والدمار والتشريد والتخريب والإبعاد والنفي والإقصاء، والسجن والإحلال والإبدال، والموت والقهر والفقر والتشرُّد والذل والهوان، وقد جاء تمرد الشاعر على كل الأحزان والمصائب في القدس في شكل رفضٍ لثقب القدس التاريخي الأسود القادم من جوف التاريخ:
(لا أومن بعقل الجموع.. أومن بالضوء يشع، يخترق ويشير..)
( ما هذا الواحد الذي لا يحضر إلا في جنازة، أو على عرش؟)
( عبثا أحاول أن أداوي السماء)
(لن تريني على بابك أبدا... وأنت أيتها الكواكب لن أطلب أن تكوني سلما لخطواتي)
( ما أكثر الكواكب في أحشائي!)
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/