قصة أبي البدع بقلم / توفيق أبو شومر
إن
أقصر الطرق الموصلة إلى قلوبنا بخاصة –نحن العرب- لا بد أن يمر أولا
بأمعائنا وبطوننا، فما تزال أطباق الطعام الشهية، هي أهم الوسائل لنيل
الرضا العاطفي والوظيفي والحظوة الاجتماعية، وما تزال (الغدوات والعشوات)
تُنجز أفضل الصفقات في عالم اليوم، وتحل أعقد المشكلات وأكثرها صعوبة، حتى
بين الدول والحكومات !
"وما يزال البشر هم مخلوقات يزحفون على بطونهم"
وقد أثبتت التجارب بأن القول المأثور قولٌ صحيح، وهو:
"البطون تزلزل التاريخ"
ولكي
تضمن الزوجة استمرار الحياة الزوجية سنوات أطول يجب أن تكون ماهرة في
ألوان الطعام ، فكم زوجة فارقت بيت الزوجية لأنها فشلت في أن تكون طاهية
ماهرة، وكم أسرة فكَّكتها البطون، وشردتها قلةُ الخبرة في إشباع شبق
الأمعاء !
وليس غريبا أن ترتبط المناسبات الحزينة والمناسبات السعيدة برباط واحد مشترك وهو ملء البطون !
فكثيرون
إن غضبوا أكلوا بشراهة، وإن فرحوا أكلوا بإسراف، وإن فقدوا عزيزا ، عوّضوا
عن فقده بالتهام الطعام ، وإن استقبلوا مولودا ، أو ضيفا عزيزا فرشوا له
بساطا مزركشا بألوان المأكولات !
لذا
فليس غريبا أن تكون أكياس الدقيق والسكر والزيت والسمن والمقبلات والتوابل
والبهارات وأصناف الحلويات والمسليات في كل المناسبات هي سيدة المكان.
وليس
لائقا أن يأتي المهنئون غير مصحوبين بأكياس الدقيق والسكر والأرز محمولة
كما حُمل الحجر الأسود في زمن القبائل ، فكل فرد من الأسرة والقبيلة يمسك
بطرف الأكياس، أو يضع يده عليها على سبيل الرمزية، حتى يتوزع دم الأكياس
بين أفراد الأسرة أو العشيرة أو القبيلة، ويحظى كل واحد منهم بشرف
الاشتراك في هذا الطقس البطني الخالد !
وكأن أهل الفرح مقبلون على سبع سنوات عجاف !
ويُفرز
أهلُ المناسبة مختصين في علوم هدايا ومنح أكياس الطحين والسكر والأرز ،
فيخصصون شخصا لتسجيل أسماء كل الذين أحضروا الأكياس وذلك لغرض سداد هذا
الدين عندما تحين المناسبة ، ولجنة أخرى مكونة من فردين أو أكثر من الشباب
الأقوياء لاستقبال هدايا الأكياس، عند وصولها في السيارات، ومهمة هؤلاء
أنهم عندما يشاهدون سيارة تقترب من المكان، يقفون إن كانوا جالسين ويصوبون
أبصارهم نحو حقائب السيارات الخلفية، وما إن تفتح أبواب الحقائب الخلفية
لسيارة الضيف، حتى يعدو الفهود والأسود نحو السيارة لحمل الأكياس، وإراحة
المحسنين الضيوف !
ويمكن لمن يتابع قسمات وجوه المحسنين ومستقبلي الإحسان أن يرى بوضوح الانتشاء والفرح الغامر الممزوج بالفخر مرسوما على كل الوجوه !
لم
تنته القصة بعد ، فأكياس الدقيق والسكر والأرز وما في حكمها ، تنتقل من
البيوت الضيقة إلى أي دكان مجاور فتباع بنصف ثمنها الحقيقي ،لأنها صارت
بضاعة من الدرجة الثانية، وهذا بالطبع يغتال فرحة الفخر والنشوة التي
صاحبت وصول الأكياس !
وما أزال أذكر كيف أنني تمردتُ
ذات يوم على هذه العادة واشتريت باقة ورد منسقة، وتأبطتها مفتخرا بفعلتي
ظنا مني بأنني سوف أُغير تقليدا باليا، فأستبدل أكياس الدقيق والأرز
والسكر بالورود، مع العلم أن ثمنها كان أغلى من ثمن كيس الدقيق والأرز،
ولم ألتفت يومها إلى أن صاحب الفرح يعيش في وسط لا ينظر باحترام وتقدير
وإجلال للورود ومشتقاتها، لأنها لا تدخل عبر نفق الأفواه في الأفواه
والبطون !
وما حدث يومها رأيته في عيون المستقبلين، ممن كانوا ينظرون لباقة الورد بسخرهزاء( نحت خاص من كلمتي السخرية والاستهزاء).
المهم أن أحدهم أبلغني بأن أهل الفرح أطلقوا عليّ استهزاءً لقب ( أبو وردة) وصاروا يقولون عندما يشيرون إليّ هامسين :
جاء أبو وردة هذه المرة ، بلا ورد !!
فما نزال أسري القول الخطير السالف الذي يُحفظ ويستعمل بغض النظر عن مناسبته، وهو يستعمل للأسف ضد أي تجديد مستحب في الحياة :
"كل مُحدَثٍ بدعة ... وكل بدعة ضلالة ... وكل ضلالة في النار" !
ابتسمت
وأنا أتخيل نفسي أقدمتُ على (بدعة) أخرى جديدة فغيّرتُ باقة الورد،
وأهديتُ صاحب الفرح مظروفا أبيض اللون جديدا- كما يفعل الآخرون في عالم
اليوم- وبداخله شيك بنكي بمبلغ يفوق أثمان ثلاثة أكياس من الدقيق والسكر والأرز!
تُرى... ماذا سيسمونني عندئذٍ :
أبو الشيكات ؟ أم أبو البنوك ؟ أم أبو البدع والضلالات ؟!!!
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/