في يوم الأسير الفلسطيني
بقلم:
المحامي جواد بولس – كفرياسيف ، مدير الوحدة القانونية لنادي الاسير الفلسطيني
لم يكن على عادته في هذا الصباح الباكر. دخلت عليه،
يجلس وراء مكتبه، أمامه بضعة أوراق يحملق فيها وكأنه يقرأ. صباح الخير أبو الأدهم،
قلت. أشاح بعينين حزينتين. رد التحية وأردف قارئاً وصية أسير في عقده الخامس يمضي
محكوميّة سبعة عشر مؤبداً.
كانت تلك الأوراق تقريراً من محام يعمل في نادي الأسير
الفلسطيني، الذي يرأسه قدورة فارس، أبو الأدهم، وفيه ينقل ما أملاه هذا الأسير
موصياً أبناءه واحداً تلو الآخر، ويتمنى على ابنته أن تجتهد لتكون محامية بارعة، ولأخيها
أن يكون بطلاً متفوقاً بالثانوية العامة، وهكذا تتكرر الوصية لأبنائه الخمسة. هو
لا يحلم إلا بنجاحاتهم في الدراسة والتفوق فيها. حريته في تأمين مستقبل من خلّف وبعض
أمنية يترجمها بخجل ووعد، لأنه سيعوضهم بحبه ولمساته عندما سيقبض على شمس حريته
ويعود إليهم في يوم ما.
نقرأ أسبوعيا عشرات الصفحات من هذه التقارير، وتبقى
تلك الكلمات البسيطة، العادية الأكثر تأثيراً ووقعاً في نفوسنا لأنها تعكس دائماً
إنسانية الأسير الفلسطيني الشفافة الطاهرة التي تأبى أن تخدش وتشوه. إنسانية أراد
السجان الإسرائيلي أن يحطمها ويهزمها، فتتمرد وتشمخ لتبقى عربوناً وشاهداً على
صمود آلاف مؤلفة دفعوا أجمل سني أعمارهم وراء القضبان وفي عتمة سجون الاحتلال.
وصية أسير حرم من طيب عيش وحنان أب عادي بسيط لعائلته
التي يحب أكثر ما يحب ويحب الوطن والحرية أكثر. وصية إنسان خالص، سلاحه وشاهده في
وجه ظلم وظلام تنيره نفس مشبعة بإيمان وإرادة وحب للحياة التي لا بد أن تهزم قوماً
فقدوا إنسانيتهم. مثل ذاك الأسير آلاف مروا التجربة وسبعة آلاف ما زالوا يعيشونها.
عدد من حكم بالسجن المؤبد يقارب الثمانيمائة أسير، إلى جانبهم تقضي ست وثلاثون
زهرة من صبايا وسيدات فلسطين مدد أحكام متفاوتة ومعهم حوالي الثلاثمائة قاصر.
مائتان وخمسون أسير إداري يقضون وراء القضبان دون محاكمة ولا اتهام وألف وثلاثمائة
أسير مريض، أمراض بعضهم خطيرة لا يعالجون بالقدر الكافي والمناسب.
كل هؤلاء يعرفون بالحركة الفلسطينية الأسيرة وهم فرسان
الحاضر، سبقهم في هذه التجربة عشرات الآلاف، فكل بيت فلسطيني ساهم بحر أو حرة في
مسيرة التضحية والوفاء هذه، التي كانت وما زالت سلاح الإنسان، الإنسان الحر في وجه
احتلال بغيض يقمع عيدانا لا أراني إلا أنها تشتد وتصلب مقابل ما يُعمله هذا
الاحتلال من فساد وتشوه في نفوس شعب يمارس القمع والاحتلال منذ عقود.
أكتب في يوم الأسير الفلسطيني الذي يحل في كل عام في
السابع عشر من نيسان وهي أيضاً الذكرى لدخول المناضل مروان البرغوثي عامه التاسع
في الأسر. أكتب وأستعيد ذكرى لقائي الأول به تماماً في مثل هذا اليوم قبل ثمانية
أعوام. اعتقلوه في الخامس عشر من نيسان وقابلته في معتقل المسكوبية بالقدس. كان
منهكاً يقاوم نعاساً قاهراً لأن المحققين منعوه من النوم. حدثني بوشوشة تخفي
هديراً وكان سؤاله الأول عن العائلة وعن الأولاد وأصر أن أطمئنهم عن حالته وعن
صحته. جلست بصحبته طويلاً وأهم ما اتفقنا حوله في هذا اللقاء الأول هو ما أصبح عنواناً
وموقفاً مميزاً فيما بعد وهو عدم الاعتراف بصلاحيات إسرائيل باعتقاله واعتبار ما
حصل اختطافاً منافياً لما كان سائداً من وضع واتفاقيات كان على إسرائيل الالتزام
بها.
كان موقفه صلباً واضحاً لا يقبل المساومة ولن يرضى
بتبديل. لم يعترف مروان بقانونية الإجراءات ولا بولاية محكمة إسرائيل عليه، ولم
يعترف كذلك أنه مجرم أو مخالف لأي قانون، فالمجرم والمخالف هو الاحتلال وما يقوم
به منذ عقود في حق أبناء شعب مروان.
لن أخوض في قضية المناضل الأخ مروان البرغوثي، فهي شأن
لما قد أكتب عنه في المستقبل. لكنني في هذه الذكرى وعودة على ما بدأت مقالتي فيه،
أؤكد أن زياراتي اللاحقة المتكررة له كانت تبدأ وتنتهي بالحديث عن العادي البسيط
الهام، وهو قلقه على دراسة ابنته وأولاده وإلحاحه عليهم بوجوب الاجتهاد والتفوق
بالدراسة والعلم. كان مروان يلح والعائلة تطمئن، وأمامها دائماً تجربته الشخصية،
فبالرغم من اعتقاله المبكر في بداية الثمانينات استطاع أن ينهي دراسته للشهادة
الأولى في جامعة بير زيت وأعقبها بشهادة الماجيستير، وبعدها للتحضير لشهادة
الدكتوراه، التي حصل عليها مؤخراً.
في هذا العام وفي هذه الذكرى يكتَب الكثير عن الحركة
الفلسطينية الأسيرة. كثيرة هي التقارير التي توثق لما عانته وتعانيه. ومؤسسات
عديدة تتابع شؤون الأسرى والمحررين، فلسنوات كانت هذه الحركة واحدة من أهم العوامل
الفاعلة في الفضاء السياسي الوطني الفلسطيني ولأحيان كانت بمثابة ضابط نبض الشارع
الفلسطيني الوطني المقاوم للاحتلال.
من أهم ما اتسمت فيه هذه التجربة هي تلك المقدرة
المعجزة على تأطير كوادر الحركة الأسيرة وامتثال أفرادها لقيم إنسانية أخلاقية
أبهرت السجان وانتزعت تقديره لذلك الانضباط. إسرائيل أرادت من خلال ممارستها
لاعتقال عشرات الآلاف أن تهزم روح المناضل/ة الفلسطيني/ة وأن تقمع تلك الروح ليؤدي
ذلك إلى تخريج أشباه رجال ونساء، فاقدي الأمل والعزيمة، والواقع أنها كانت تجربة
صهرت من دخل بها غضاً ومن كان به خلل. تجربة سعت وعملت على تثقيف من زج به في
السجن، ولذلك خرجت كوادر تبوأت صدارة العمل السياسي والشعبي والجماهيري في مقاومة
الاحتلال طيلة عقود.
تجربة رسخت إنسانية الإنسان الفلسطيني وأدت إلى تفوقه
على همجية المحتل الإسرائيلي. فهل مازال هنالك من يتخوف أو يتردد أو يتساءل حول من
سينتصر في النهاية؟
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/