نت في شبابي من أكثر الناس صخبآ وحيوية
وجدالآ مع الناس، في السياسة، في الدين، في الرياضة، في النساء، وفي كل
شيء، فقدت أصدقاءآ وكسبت آخرين ومن فقدتهم كانوا أكثر
أكثر موضوعين كانا يرفعان الأدرينالين والضغط هما الدين والسياسة
مع مرور الزمن خف الضجيج وصرت أنسحب شيئآ فشيئآ، وصرت أراقب الجيل الجديد وهم يتصايحون مثل الديكة
ماجعلني
أنسحب ليس فقط تقدمي بالعمر ولكنه قرفي واشمئزازي، لم أعد أحتمل ما وصل
إليه حالنا، صرت أشعر تدريجيآ أنه لم يعد هناك مكان للحوار الهادئ وتبادل
الآراء بجو راق محترم
كم أكره برنامج الاتجاه المعاكس، الكل يصيح وبوقت
واحد، المذيع والمتحاوران والمتداخلون بواسطة الهاتف، لا تفهم شيئآ مما
يقولون، الكل يزعق والكل يصيح وإذا كان عندك ضيوف فهم أيضآ يزعقون
ويصيحون، كل واحد يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة ويثور مثل الثور الهائج
لأن محاوره لا يشاركه الحقيقة نفسها، حتى النساء صارت تزعق وتصيح وترغد
وتزبد، ، صرت أصاب بالصداع والضيق الشديد كلما حاولت متابعة هذا البرنامج
حياتنا اليومية صارت برنامج اتجاه معاكس متواصل، زعيق، صراخ وصداع، لا مكان لي في مثل هذه الحلبات سيطيحوا بي من أول كلمة أتلفظ بها
تأتي
عائلة لزيارتنا، نتجاذب أطراف الحديث ونحن نشاهد التلفزيون، أنقل إلى محطة
رياضية أو وثائقية مثل ناشيونال جيوغرافيك ولكن ضيفي يأخذ الريموت كونترول
مني ويعيدنا بسرعة إلى محطة عربية زعيقية، البشير يلوح بعصاه ثم يشير إلى
حذائه، سندوس على القرارات الدولية بحذائي هذا، الرعاع من حوله يصيحون:
الله أكبر، الله أكبر
ألقي نظرة على ضيفي فألمحه فاغرآ فاه إعجابآ
ودهشة، يحاول أن يورطني بنقاش حول الموضوع ولكنني أتملص منه منتظرآ ذهابه
لكي أعود إلى عالمي الخاص، إلى صمتي وبرامجي المفضلة وموسيقاي الكلاسيكية
تأتي مناسبة، نذهب عند عائلة صديقة وتحضر أسر أخرى، من حديث إلى حديث، يبدأ الجدال وترتفع الأصوات:
تريد ديموقراطية أليس كذلك؟ وهل يفهم شعبنا معنى الديموقراطية؟ وهل تناسب الديموقراطية شعبآ متخلفآ مثل شعبنا؟
أحاول أن أرد: نحن نستحق أن نعيش في جو ديموقراطي، ستكون البداية صعبة ولكن مع مرور الزمن سنتعلم من أخطائنا وشيئآ فشيئآ...
يخرسني
أحدهم بصوت عال : هذا الشعب لا يفهم إلا بالصرماية، بلا ديموقراطية بلا
بطيخ، ويزعق آخر: وهل أمريكا بلد ديموقراطي برأيك؟ أليست ألعوبة بيد
اليهود، ألا يتحكم اليهود بالاقتصاد والاعلام والسياسة و...
أنسحب تدريجيآ من النقاش وأحاول تخفيف توتري بفصفصة البزر والفستق الحلبي وأرطّب فمي ببعض العصير
أذهب
إلى أرض الوطن كل سنة أو سنتين، أشعر بسعادة لإلتقائي بأهلي ومن تبقى من
أصدقائي القدامى، ولكن فرحتي لا تعمّر طويلآ، لمجرد أن أبدي رأيي بموضوع
ما أجد نفسي محاطآ بأربعة أو خمسة أفواه غاضبة تقذف الحمم، أرفع يدي أمام
وجهي لأتقي من رذاذ لعابهم المتطاير من براكين غضبهم: ماذا ينقص المرأة
عندنا؟ وهل وضع المرأة في أفضل الغرب ؟ ما المشكلة إذا انتشر الحجاب بين
الفتيات الصغيرات؟ بماذا يزعجك ذلك؟
أنسحب ، أصمت، أعود إلى البزر والفستق وأرطب فمي برشفة ماء
كثيرأ
ما أشعر بالانكسار والمهانة من هذا الوضع، وأشعر بكرامتي قد جرحت لعدم
قدرتي على التعبير عن رأيي بهدوء واضطراري للسكوت والانسحاب واحساسي بأنهم
يفهمون ذلك على أنه هزيمة لي وانتصار لهم
صار الصمت ملازمآ لي عندما
أكون بين الناس، وصاروا يستغربون هيئتي الجديدة قائلين: لقد تغيرت كثيرآ
يا نارت، لم تكن كذلك في السابق، صرت رزينآ هادئآ، يا سبحان مقلّب الأحوال!
أبتسم، لا أجيب، أتناول رشفة من الماء، صرت أتقن هذه اللعبة، لعبة الافلات من دعواتهم للصياح والزعيق
قبل
عدة أيام وعندنا ضيف كبير في السن، جلسنا على مائدة الطعام، الضيف وزوجتي
وابني وأنا، وكنا قبل الطعام نشاهد برنامجآ على الفضائية السورية حول
السياحة في سوريا، وكانوا يستضيفون مسؤولين كبيرين في وزارة السياحة
احتج
ابني على معلومة وردت على لسان أحد المسؤولين الذي قال أن ترتيب سوريا هو
العاشر في العالم بعدد السياح، نهر الضيف ابني قائلآ له: يجب أن تفرح
لسماعك مثل هذه الأخبار عن بلدك
رد ابني: ولكن المعلومة غلط يا عمّو
رد الضيف: وهل تفهم أنت أكثر من المسؤولين في الوزارة؟
هذه المرّة لم أسكت، قلت لإبني : ما رأيك أن تذهب بعد الطعام إلى كومبيوترك وتأتينا بالخبر اليقين من النت؟
رد ابني بحماس: والله لآتيكم به في الحال وفي لحظة واحدة، ترك ابني الطعام ولم تمض دقيقة حتى جاء بالخبر
سوريا بالمرتبة الثامنة والثمانون، والأدهى من ذلك أن مملكة البحرين التي لا تتعدى مساحتها مدينة دمشق تسبق سوريا بأشواط كثيرة
غمرتني
مشاعر متناقضة فمن جهة حزنت على بلدي، ولكن من جهة أخرى أشعرني ابني
بالسعادة والانتصار وقلت في نفسي: بوركت يا ولدي، خذ الراية من والدك
المثخن بالجراح
الجيل الجديد مسلحآ بالعلم والانترنت واتقان اللغة
الانكليزية لن تنطلي عليه بعد اليوم حيل المنافقين، ولّى زمن الخداع
والضحك على الناس، صارت الحقيقة على مرمى نقرة واحدة في غوغل، وبدأت أرى
النور في آخر النفق
أتمنى أن أقضي بقية حياتي في قرية صغيرة في كندا أو
القوقاز بعيدآ عن صياح وزعيق الناس، أزرع بعض الخضار وأتفرغ لمطالعاتي
وخربشاتي، ولكن المشكلة أن زوجتي التي أحبها بجنون لن تعجبها تلك الطريقة
في الحياة فمثلها في الحياة هو ( الجنة بلا ناس ما بتنداس)، لذلك أجد نفسي
مضطرآ لأن أقضي بقية حياتي صامتآ، سيكون قلمي هو لساني، سأراقب هؤلاء
المتخلفين وأكشف عيوبهم وغباءهم، سأشرّحهم وأمزّقهم بدون أن أفتح فمي
بكلمة واحدة، سأفعل ذلك إلى آخر يوم في حياتي ...
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/