كيس الطحين
في فلسطين بقلم / توفيق أبو شومر
أشرتُ ذات يوم
إلى منزلة كيس الطحين في فلسطين،وقلتُ إن له منزلةٌ في
أسرنا وأيَّ منزلة، وشبهته آنذاك ببودرة (الجبس) أو الجص ، فهو قادر على
تكوين طبقة لاصقة على الأفواه تمنع صراخها وألمها، وهو في الحقيقة قادر على
إسكات الفقر والألم مدة تتراوح بين أيام ، أو أسبوع بحسب عدد أفراد
الأسرة.
وكيس الطحين له
قدسية كبيرة في الأسرة الفلسطينية، وقد وصف تلك المنزلة أحد معارفي فقال:
لا أنام إلا بعد
أن أشاهد برميل الطحين الذي يتسع لمائة كيلو من الدقيق مملوءا عن آخره،
فأولادي من أكبر مستهلكي الدقيق في العالم، فهم لا يحسون بالشبع إلا بعد أن
يملؤوا بطونهم بالأرغفة وبخاصة عندما تكون ساخنة !
فالخبز يعوّضهم
عن أشياء أخرى لا أستطيع شراءها كل يوم، فهو طعامٌ تعويضي قادرٌ على إسكات
الأمعاء الفارغة !
حاولت أن أبحث عن
دراسات حول هذا الموضوع الطريف لأعرف آثار كيس الطحين على الأسرة
الفلسطينية، أو منزلته بين أنواع الطعام ، وهل يحظى بالترتيب الأول بين
أنواع الطعام ؟ كما حاولت أن أبحث أيضا عن علاقة الاستهلاك المفرط للخبز،
وبين الأمراض المتنوعة ، فلم أعثر في المكتبات أو في المواقع الإلكترونية
على ما يُشفي غليلي !
وما أزال أبحث عن
علاقة هذا الكيس البديع المحبب بمرض السمنة الآخذ في التفشي بين
الفلسطسينيين بسرعة البرق، لأعزز نظريتي بأن لكيس الطحين آعراضا صحية
خطيرة، ولا سيما إذا كان الكيسُ مقرونا بالسجن والحصار وانعدام الرياضات
ومراكز الترفيه، كما أن أكياس الدقيق توزع بالمجان على أكثر من نصف السكان،
وهو ربما الأرخص سعرا في كل بقاع الأرض، وإذا أضفنا إلى ما سبق حالة
البطالة التي يعاني منها آلاف الموظفين في قطاع غزة ، فهم يستهلكون، ولا
يمارسون رياضة العمل، وهي أبسط
أنواع الرياضات ، فإننا نشعر بفداحة الأمر!
ومن يسر في شوارع
غزة هذه الأيام، يرَ ظاهرة السمنة بوضوح بين صغار السن، وبخاصة النساء،
على الرغم من أن معظم دول العالم أُعلنت رسميا بأن السمنة هي المرض الأكثر
خطورة في عالم اليوم ، لما لها من آثار جانبية على الصحة العامة واستهلاك
الدواء، وكثرة انتشار الأمراض مما يعيق خطط التنمية في كل الدول.
كما أن كثيرين من
الفلسطينيين ما يزالون يحيون العصور الغابرة ، عندما كانت السمنة دلالة
على العيش الرغيد وسعة ذات اليد، بسبب كثرة المجاعات ولم تكن مرضا خطيرا من
الأمراض ، فهم ما يزالون متمسكين باستخدام كلمة (ناصح) للشخص
السمين، وهي كلمة محببة جدا، فهي تعني الصحة والقوة والسلامة ويكون معناها
أيضا، أن الناصح شخص عاقل (حكيم) !
لن أخوض فيما
اعتاد عليه ( الناصحون) وهم يبررون نصاحتهم، بأن للآمر علاقة بالاحتلال
وضيق ذات اليد والفقر والعوز، وقلة مصادر الدخل، فما أزال أعتبر السمنة
مرضا خطيرا جدا على بنية المجتمعات، وبخاصة المجتمع الفلسطيني الواقع تحت
الاحتلال .
وما أزال أذكر
بأن الفيلسوف فردريك نيتشة الذي توفي في أول أعوام القرن العشرين، قد ربط
بين غذاء الشعوب وطريقة تفكيرها، وهذا أمرٌ ممتعٌ وفريد فقال:
" إن للآطعمة
آثارا على العقول، فالديانة البوذية مثلا، وليدة الأرز، فزراعة الأرز
والإشراف عليه وجنيه عبادة أرضية تتم في الحقول والمستنقعات الواسعة، وهذه
الزراعة هي المسؤولة عن نشر الديانة البوذية في الهند التي غيَّرت العبادة
من السماء إلى الأرض ، فالبوذية ليست دينا سماويا !
كما أن زراعة
الأرز وجنيه تحتاج إلى رياضة وصبر وجلد، وهذا ما دفع البوذيين إلى استخدام
رياضات اليوغا المعروفة.
أما سبب ظهور
الفلسفة الميتافيزيقية في ألمانيا عند كبار الفلاسفة الألمان أمثال كانت
وهدغر وهيغل وغيرهم، فيعود عند نيتشه أيضا إلى مشروب البيره الكحولي،
فإفراط الألمان في شرب الجعة يجعلهم
يعيشون في خيالاتهم وأوهامهم فيبتدعون عوالم أخرى جديدة"
أورد نيتشه هذا
التحليل في إطار ساخر ، غير أن أحدا من العلماء لم يكمل ما بدأه الفيلسوف
الكبير نيتشه، فلو أضافوا إلى نظرية نيتشة الجبن والبطاطا الفرنسية
وجعلوهما مسببا رئيسا لحب الفرنسيين الرقص، وولعهم بالفنون والآداب مثلا،
كما أن استهلاك الإنجليز والأمريكيين للحوم الحمراء يفسر السبب وراء الحروب
وتكوين الجيوش والإمبراطوريات، إلى أن نصل إلى (كيس الطحين) في فلسطين.
فماذا يمكننا أن
ننسب إلى كيس الطحين المقدس في فلسطين ؟
هل ننسب له الصبر الفلسطيني القياسي على الآلام وقوة الاحتمال، أم
ننسب له الخلافات الأسرية والقبلية والحزبية؟
أم أنه السبب في
الانقسام الفلسطيني الراهن؟ أم أنه سبب رئيس من أسباب التفكك الأسري؟
لقد أعلنت دولُ
العالم، وعلى رأسها أمريكا بأن السمنة هي أخطر الأمراض، لأنها تقتل أضعاف
ما يقتله كل أنواع السرطانات المظلومة ! وأضعاف ما تقتله الأوبئة العالمية
المنتشرة في كل العالم .
قال لي أحدهم،
وهو صادقٌ:
إن عملية إعداد
الخبز، أهم بكثير من كل واجبات زوجتي ، حتى واجباتها نحوي وهي أصعب
واجباتها المنزلية، فهي تقضي ثلثي وقتها في إعداد الخبز، فما تخبزه في
يومين أكثر من مائة رغيف كبير ، يكفى لحفلة من الحفلات الكبرى! وواصل باسما
:
" إن ما أجمعه من
بقايا الأرغفة من أيدي أطفالي الثمانية عندما يغفون فوق فراش نومهم ،وهم
يقضمونه كأنه مخدر، يكفي لوجبة طعام لعائلة" !
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/