الطريق إلى ديمونا
الطريق
إلى ديمونا شاق ووعر وشائك جداً وكل الذين راودتهم فكرة ارتياد هذا الطريق
إما أنهم أحبطوا منذ البداية وتراجعوا عن مهمتهم عندما علموا بمشاق
الطريق، وعرفوا أهواله ومخاطره،أو أنهم سقطوا في الأمتار الخمسة الأولى قبل
أن يجتازوا الحاجز الأول على هذا الطريق الطويل.
لذلك بقي الطريق إلى
ديمونا عذرياً ومجهولاً إلى أن أُتخذ قرار اكتشافه ...واقتحامه.
*كل
الطرق التي تؤدي إلى ديمونا وفي محيط دائرة قطرها 50كم توجد عليها حواجز
عسكرية ثابتة ومتحركة، وكلما اقتربنا من حدود ديمونا نفسها ازدادت إجراءات
الأمن والحماية تحسباً من أي نوع من أنواع الاختراقات المعادية.المفاعل
النووي نفسه مستقل بذاته.محصن بنائياً بالبيتون المسلح ضد القصف الجوي ،
وجميع الأقسام الحيوية في المفاعل مغمورة تحت الأرض ولمسافة ستة طوابق
كاملة.
سماء"ديمونا" محروسة بشكل دائم بشبكة محكمة من الرادارات الحديثة
والدفاعات الأرضية الصاروخية والمدفعية هناك منصات صواريخ هوك المعدل،
والمدافع المضادة للطائرات المقطورة طراز"بوفورز ل-70"عيار 40ملم ومدافع
"الاوركيون عيار 30ملم"، فضلاً عن أسراب الطائرات الاعتراضية الجاهزة دائما
للعمل انطلاقاً من مطار ديمونا المشرف على المفاعل، بالإضافة إلى الحماية
الجوية التي يمكن أن تتدخل بسرعة لحسم أي معركة انطلاقاً من أي المطارات
الثلاث الأحدث التي بنتها الولايات المتحدة لإسرائيل في الصحراء النقب
تعويضاً لها عن الانسحاب من سيناء ، وإخلاء المستوطنات الصهيونية منها.
كما
أن "ديمونا" تدخل ضمن النقاط الأكثر حيوية التي تتوفر لها إمكانيات
الإنذار المبكر بعيد المدى بواسطة الطائرات الرادارية المحلقة من طراز"أي-2
هوكاي"التي تطير في السماء لمدة أربع ساعات كاملة ,ويصل مدى كشف رادارها
إلى حوالي 360كلم في مختلف الاتجاهات، وعلى كل الارتفاعات.
هذا في
السماء أما في الأرض فهناك نظام آخر من شبكات الحواجز الالكترونية المعقدة
والحساسة، وهذه الشبكات تضم منظومة من الرادارات التي تكشف حركة الأفراد
والآليات، وهي موزعة على نقاط ثابتة وأخرى متحركة لتغلق كل الدائرة المحيطة
"بديمونا"، وتكشف حركة الأفراد والآليات المهاجمة.
وهناك أيضا
أجهزة"الجيوفون" التي تعمل على التقاط الذبذبات الأرضية الناشئة عن سير
الأفراد والآليات، إلى جانب أجهزة الشم التي تسحب كمية كبيرة من الهواء
الجوي المحيط بالمفاعل النووي وتقوم بتحليلها كيماوياً بصورة مستمرة بهدف
الكشف عن الروائح والإفرازات العضوية لجسم الإنسان.
ويضاف إلى كل ذلك
أجهزة الإنذار التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء وتلتقط التغييرات الحرارية م
حول منطقة مفاعل "ديمونا"، إلى درجة إمكانية التقاط الطاقة الحرارية
المنبعثة من جسم الإنسان أو من محركات السيارات كما يوجد حول المفاعل دائرة
مغلقة من أجهزة الإنذار المغناطيسية التي توضح لغرفة المراقبة المركزية في
المفاعل في المفاعل وجود الأسلحة والمعدات المعدنية الأخرى أو
تنقلها.وهناك أخيرا شبكة الأسلاك الالكترونية الدقيقة جدا التي تنتجها شركة
التا الإسرائيلية، والتي تقل سماكة الواحدة منها عن سماكة شعر الإنسان،
ويسري التيار الكهربائي فيها,ويؤدي قطع أي شعرة منها إلى وقف التيار
الكهربائي ودق ناقوس الخطر في أجهزة الإنذار المبكر وكل هذه الشبكات
المعقدة مرتبطة بغرفة مركزية للتحكم والمراقبة والتحليل والإنذار.
كان
هذا هو باختصار "الطريق إلى ديمونا"، كان الأمر أكثر تعقيداً مما تصوره
"شرف الطيبي" الذي كلفه "أبو جهاد" بعملية ديمونا دون أن يعطيه لا صواريخ
بعيدة المدى، ولا طائرات قاذفة ، ولا إجراءات الكترونية مضادة لشبكات
الدفاع الالكترونية المزروعة حول "ديمونا" ولا شيئا آخر سوى فكرة بسيطة،
وثلاثة من الفرسان الأحياء ، وثلاثة آخرين...شهداء.
فرسان
ديمونا الثلاثة
صادق "أبو جهاد" على خطة ديمونا ، وأعطى
تعليماته الأخيرة بالتنفيذ ، وبدأ "شرف الطيبي" عملية العد العكسي للانطلاق
بالعملية. الخطة الأولى للعملية أجريت عليها تعديلات أساسية غيرت كثيرا من
تفاصيلها ، خاصة عندما عثر البدوي "حمد العزازمة" على حصان طروادة الذي
سيدخل به الفرسان الثلاثة إلى قلب ديمونا دون أن تكون كل الإجراءات الأمنية
والالكترونية الإسرائيلية قادرة على إيقاف هذا الحصان الجامح وهو يتخطى كل
الحواجز في طريقه إلى الهدف .. ديمونا.
لم يكن هذا الحصان سوى الأتوبيس
"الفولفو" الأزرق اللون الذي يحمل على متنه كل صباح الخبراء والفنيين
العاملين في المفاعل في رحلتهم اليومية من "بئر السبع" إلى ديمونا.
كان
على ضابط أمن كل أتوبيس أن يتأكد يوميا من ركابه، وكان على السائق ألا
يتحرك إلا في مواكبة سيارة جيب عسكرية تفتح الطريق أمامه،وتحمي أغلى ثروة
تملكها إسرائيل بداخله.
- "حمد العزازمة" كان قد أمضى أسبوعا كاملا ،
وهو ينتظر كل صباح هذا الحصان الأزرق الكبير ، تابعه وهو يشق صحراء النقب
في مواعيد ثابتة لا تتأخر ولا تتقدم لحظة واحدة حتى حفظ عن ظهر قلب كل شيء
عن هذا الحصان الأزرق الكبير.
كانت الخطة التي صادق عليها "أبوجهاد"
بسيطة للغاية ،مجموعة فدائية خاصة من ثلاثة مقاتلين ،ودليل واحد خبير يقوم
بتأمينهم إلى أقرب نقطة يمكن منها السيطرة على أتوبيس المفاعل النووي.
كانت
التعليمات صريحة بضرورة السيطرة على الأتوبيس وهو في حالة صالحة للحركة،
والانطلاق به بالسرعة القصوى إلى قلب ديمونا.
مباني المفاعل النووي كانت
تنقسم إلى قسمين ، القسم الأول:ويضم الأقسام الفنية في المفاعل وهي تتألف
من ستة طوابق مبنية تحت الأرض ، أما القسم الآخر فهو مكون من عدة مبان على
سطح الأرض وتضم مكاتب شؤون العاملين ، ومطعما ومكتبة وقاعة دراسة ومحاضرات
وموقفا خاصا بسيارات الأتوبيس التي يترجل منها الخبراء والفنيون كل صباح
ليتجمعوا هناك بانتظار سيارات أخرى صغيرة تقود كل أربعة منهم إلى داخل
الأقسام الفنية الخاصة بهم ، وهي تمر عادة على عدد آخر من حواجز الأمن
والتفتيش ويصل عددها إلى ستة حواجز كان على الفدائيين الثلاثة الوصول
بالأتوبيس إلى منطقة موقف الأتوبيسات داخل المفاعل ، حيث تبدأ هناك على
الفور عملية طلب مندوبي الصليب الأحمر لتأمين الإفراج عن تسعة آلاف معتقل
فلسطيني ، اعتقلتهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الانتفاضة.
كانت
الخطة على بساطتها محفوفة بمخاطر عديدة ، لكنها مع ذلك كانت الطريقة
الوحيدة تقريبا لتناول "قهوة الصباح الساخنة" في قلب ديمونا دون دعوة سابقة
لأشخاص ممنوعين أصلا من تخطي عتبة الوطن.
عندما كان " شرف الطيبي "
يواصل عملية العد العكسي لإطلاق العملية حدثت المفاجأة الأولى التي كادت أن
تلغي العملية كلها.
***
أحد الفرسان الثلاثة الذين
وقع الاختيار عليهم لتنفيذ العملية توتر فجأة ،وخذلته أعصابه ، فعجز عن
النوم لليال ثلاثة كاملة ، فقد بعدها القدرة على التركيز والعمل ، قاوم
كثيرا وكابد وعاند لكن ذلك كله كان يزيده انفعالا وتوترا ، وهكذا أوقف العد
العكسي لمدة يومين فقط تم فيهما معالجة هذه المفاجأة ، بمفاجأة أخرى.
هاهو
مدرب المجموعة والمشرف عليها يتقدم كفارس عربي أصيل ليحل محل الفارس الذي
ترجل، ويقود بنفسه العملية كلها.
انه ( عبدالله عبدالمجيد محمد كلاب) قائد مجموعة ديمونا ،
أسرته كانت تعيش في قرية "بشيت" قضاء الرملة بفلسطين المحتلة وبعد هزيمة
67 نزح وأسرته إلى مخيم رفح ، هو من مواليد 13-12-1967 ، عايش حياة اللجوء
في المخيم فتمرد عليها ، وتحول بالفطرة من حامل "كارت الإعاشة" الذي ينتظر
معونة الأونروا إلى ثائر فلسطيني من جيل الانتفاضة.
تلقى عبدالله تعليمه
حتى الثانوية العامة قسم أدبي ، ورغم تفوقه إلا أن ظروفه العائلية القاسية
حالت بينه وبين الالتحاق بالجامعة ،والده توفي وخلف لامه "مريم" عشرة من
الأبناء ، "قنبلة ديموغرافية متفجرة" ، خمسة من الإناث ، وخمسة من الذكور ،
كان "عبدالله" الثاني بين الذكور ، والسادس في الترتيب العام بين أخوته ،
لكنه الأول بين جميع أخوته وأقرانه في الوعي والحماسة والجرأة.
لما توفي
والده ، تزوج أخوه الأكبر "نعيم" في سن مبكرة وانفصل عن الأسرة فخلفه
"عبدالله" على الفور في تحمل مسئوليات الأخ الأكبر ولم يكن قد جاوز بعد سن
الثانية عشرة.
لا احد يمنح القائد صفاته، إنها تولد معه كهبة ، لكنها
تكبر فيه ، أو تموت داخله بإرادته هو .. وباختياره الحر . هكذا كان
"عبدالله" ولد وهو يحمل صفات القائد :شخصية قوية آسرة ، محبوب لكنه مرهوب ،
تأمنه لكن كسيف في غمده ، هو من صنف هؤلاء الذين يقولون للآخرين اتبعوني
ويمضي بكل ثقة للأمام.
لم يدعه احد إلى الثورة ، إذ لا يحتاج المرء عادة
إلى دعوة لدخول بيته ، أو فلاحة أرضه.
هذا هو "عبدالله عبدالمجيد"
الأسمر النحيل ذو الأكتاف العريضة وكأنها خلقت هكذا خصيصا لتحمل المسؤوليات
الكبيرة التي تقدم لحملها صبيا وشابا وثائرا.
كان"عبدالله" هو الوحيد
بين المجموعة، الذي سافر إلى قطر عربي ، حيث التقى "شرف الطيبي" ، وتلقى
هناك دورة مكثفة أهلته ليكون مدربا عسكريا.
لمرة واحدة فقط التقى
"أبوجهاد" فانطبعت صورته كالوشم في الذاكرة.
* ثاني
الثلاثة هو "محمد عبد القادر محمد عيسى" من مواليد
26/10/1966, فلاح فلسطيني آخر ولد في قرية "حتا" بالقرب من
"الفالوجا" التي كثيراً ما سمع من أبيه حكايات الحروب الطاحنة التي دارت
رحاها بين المصريين واليهود في عام 1947.
أحب محمد "الفالوجا" التي لم
يرها ...وحلم طويلاً بالعودة إليها، بعد أن نزح مع أسرته إلى مخيم "رفح"بعد
هزيمة 1967.كان لمحمد أسرة كبيرة "قنبلة ديموغرافية أخرى":الأبوان
والثلاثة عشر من الأبناء،سبعة من الإناث,وستة من الذكور,كان محمد الثاني
بعد أخيه "راسم"في الذكور،والخامس في الترتيب بين جميع إخوته، حصل على
شهادة الثانوية العامة ولم تتح له فرصة إكمال تعليمه، فثمة طابور طويل من
الأبناء الآخرين ينبغي لهم أن يقتسموا كل شيء معا من رغيف الخبز، وحجرة
النوم إلى فرص التعليم.
لم يكن يميز محمد عن الآخرين إلا صمته,ووجهه
المكتمل الاستدارة، وشغفه البالغ بالملاحظة والتدقيق والمتابعة كان بفطرته
مشروع "رجل امن" رائع.
كان مولعا بتعقب هؤلاء الذين زلت أقدامهم في
التعامل مع قوات الاحتلال وأجهزته ومخابراته، في إحدى المرات طعن احدهم
"بشبرية"وكاد أن يقتله، وفي مرة ثانية أضرم النار في سيارة عميل آخر.
كان
الساعد الأيمن "لعبد الله" في تنفيذ المهمات الخاصة ، وتخزين السلاح،
وعندما ابلغ عن العملية كان من المتقدمين لها ، رشحه "عبد الله "لقيادة
العملية قبل ترجل ثالث الفرسان فجأة لما توترت أعصابه.
حاول "محمد" جهده
أن يثني من عزم رفيق عمره، وتوأم روحه "عبد الله"عن الانضمام للمجموعة
الفدائية.أحب أن يوفره للمستقبل ,فقال له"ابق أنت للزراعة ودعنا نحن
للحصاد".
ولكن عندما تقرر أخيرا أن ينطلق ثلاثتهم لتنفيذ عملية
"ديمونا"غمرته مشاعر الفرحة كعريس في ليلة الحناء محفوف بأخوته.
*
ثالث الفرسان الفدائيين هو أصغرهم سناً "محمد خليل
صالح الحنفي"، أو"محمد حنفي"شاعر المدرسة والمخيم كما كان يحلو
لأقرانه أن يلقبوه.
هو ابن أسرة فلسطينية بسيطة عاشت في "أسدود"على ساحل
البحر المتوسط حتى عام 1967ثم اضطرت للنزوح إلى مخيم "رفح" توفي والده
وترك خلفه أما وسبعة أبناء كان "محمد"أصغرهم. هو الرابع في الترتيب بينهم،
حصل على شهادة الثانوية العامة ثم هجر الدراسة واحترف الثورة.
كان لـ
"محمد"كما لكل الشعراء الشبان قدوة، وكان "أبو الطيب عبد الرحيم محمود"
شاعر الثورة الفلسطينية وشهيدها المقاتل في ثورة عام 1936هو قدوة "محمد
الحنفي" ومالك روحه,ومثله الأعلى. كان "محمد الحنفي"على حداثة سنه خزانة
ثقافية متحركة ، وطاقة متفجرة للدعاية والتحريض والتعبئة.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/