الحبل السرّي .. المجانين الذين أتقنوا الحكمةَ والصمت !
الشاعر عمر فارس أبو شاويش
يمكنكَ
أن تبحث عن واقع بديل في الوطن يمنحك إحساساً معنوياً بإمكانية بسط سلطانك
على الحياة وممارستها بحرية، وهذا ما يلجأ إليه عادة الذين تعجزهم الموانع
والعراقيل القهرية عن ممارسة حياتهم وتشكيل واقعهم الحر، يتجلى ذلك غالباً
في إبداعاتهم على مستوى الفن والانقسام وتداعياتها النظرية، بل إن كل
المثقفين والمنشغلين بالفكر عموماً في البلاد التي صادر العدوان أو
الاستعمار أو الدكتاتورية حرية أهلها وفرض عليهم وقائع سياسية واجتماعية
واقتصادية لا تمت بنسب إلى إرادتهم الحرة ، يدركون أن ما هو قائم في
بلادهم ليس هو الواقع الحقيقي الذي أنتجه الناس أو الذي ينبغي أن ينتجه
الناس بجهدهم الحر، أو اختيارهم الواعي ، بل هي مجرد وقائع أمليت عليهم
وأنه لا يجب بالتالي التعامل مع هذا الوضع القائم " الانقسام " على أنه
الواقع الحقيقي ، من هنا يمكن أن نجد تفسيراً معقولاً لمعركة المثقف في
غزة بمفهوم الواقع الحر من ميدان الممارسة الحياتية المعاقة أو المحظورة
إلى ميدان الممارسة الفنية الثقافية الجريئة ، ويتجلى ذلك في الاستخدام
المفرط لمفردتي " في الواقع ، وفي الحقيقة " ، بل تراهم غالباً يجعلون
هاتين الكلمتين افتتاحية ضرورية لحواراتهم ومجادلاتهم ومدخلاتهم وكأنما هم
بذلك يهيئون المثقف للانتقال معهم إلى عالم اللغة باعتبار البديل الممكن
للواقع لا يمكن على الإطلاق أن يكون يوماً أثراً ماثلاً " للحرية " للجرأة
القاتلة.
فعندما
تصبح العزلة " الانقسام " في وطني هي الميدان البديل الذي يؤسس في الناس
واقعهم ويستعيدون فيه حريتهم، فإن ثمة ما ينذر بخطرٍ داهم قد يتهدد
مستقبلهم إذا ما تجاهلوا أو غفلوا لحظة، أن كلّ هذا ليس حقيقياً وأغرقوا
بالتالي في التعامل مع البدائل دون أن ينتبهوا إلى أن ذلك الإغراق قد
يتحول شيئاً فشيئاً إلى حالة بائسة تحاصرهم بالعجز، مستقبلاً، عن استثمار
فرصة التحرر السانحة للانخراط في عملية تأسيس الواقع الحقيقي في ميادين
الفعل والبناء.
ولعلي
كنت صائباً عندما رغبت بالاختفاء تماماً من حالة المتفرج المبهور من مشاهد
المسرحية إلى حالة المتفرج المشارك الذي ربما يختبئ خلف ستار المسرح، أو
ربما يكون جندياً مجهولاً من الممثلين الذين يشاركون دون أن يقفوا قط على
خشبة المسرح فيكتفي بقلمٍ ودفتر وبعض الدموع التي كانت أصدق محبرة عبرت
بازدحامها عن رغبة شعبي بالحب أولاً ومن ثمّ تمزيق كبد الأحبال السرية .
فضلاً
عن كوني كنت شقياً على خشبة المسرح قبل أن يفتح الستار، إلا أن شقاوتي
استطاعت من رصد الحالة الحقيقية للفنانين الذين تربطهم علاقة الأب بالابن،
وعلاقة الروح بالمخلصين، فالحبل السري لم يكن بألوانه المتنوعة هو البطل
الحقيقي على خشبة المسرح، بل إن السر الذي يكمن في داخل كل فنان منهم هو
الأكثر بطولة في ظل غياب الأصوات التي تنادي لفجر الحرية والوطن، فأدوا
هذه المهمة بجرأةٍ لا تقف حدّ مداخل ومخارج قاعة رشاد الشوا فحسب، وإنما
أمام كل بيت فلسطيني لا يعطي للحبل السري أي قيمةٍ أو ثمن .
بل
وأمام كلّ هذا الصمت الذي ينطلي على شخصية الفنان الرائع غانم الدن، وقفت
مكترثاً فور رؤيتي لديكور المسرحية، أهذا منزلنا القديم الذي حدثني عنه
جدي في رحلته مع اللاجئين، أو ربما هذا منزل جاري أبو أحمد بمخيم
النصيرات، أقصد أنه منزل السيدة العجوز التي كانت تمنحني الحلوى وهي تجلس
أمام عتبة البيت بمخيم البريج، لا لا إنه بيت الأسير نضال الذي مرّ على
اعتقاله عشرات السنوات، مهلاً يا عمر إنه منزل الشهيد ثائر الذي ارتقى
بعملية فدائية، يا الله ! .. إنه المشهد ذاته والشارع ذاته والحارة ذاتها
حتى أن الإحساس ذاته لا يختلف تماماً عن تفاصيل المخيم .. عن حكاية
الحارات والجدران التي تزينت بشعارات الوطن، عن حدوتة جدتي قبل أن تذهب
لسوق الاثنين بمخيم النصيرات لشراء البصل وعلب السردين، عن دمعة طفل نام
متأخراً بعد قضاء وقت طويل باللعب في شوارع المخيم وذهب باكراً للمدرسة
دون أن يتذكر مطلقاً أن يؤدي واجبه المدرسي، عن بائع الفلافل الذي يقرأ
جريدة ورقية يطالع أخبار البلاد فيبكي ويضحك ثم يعود لطيّ صفحة الجريدة
ليضع بها أقراص الفلافل، عن قصة جيب الأوماتتيك أقصد " الأتوماتيك " الذي
كان يتقدم جيب الحاكم الإسرائيلي مليئاً بالجنود الذين يهيئون أنفسهم
لوجبة صباحية بطعم الحجارة الغاضبة من شبّان غاضبون، عن سارة التي كانت
تتجول مخيم النصيرات شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً دون أن تترك رجلاً
واحداً أو امرأة واحدة دون أن تصافحهم وتأخذ " شيكلاً " لتستطيع أن تواكب
حضارة يومها المليء باللجوء وتفاصيل النكبة، عن أبو عنتر الذي كان يحمل
الكيس على ظهره بمخيم البريج متنقلاً من حارة إلى حارة ومن مخيم إلى مخيم
وبالكاد تتمنى لو أنك تعلم مع هذا السر الحقيقي في هذا الكيس الذي لا
يفارق أبو عنتر ..
الفنان
الرائع غانم الدن ومعه الفنان طارق الهواري والفنان محمد المغاري الذين
شاركوا في تصميم الديكور، يرى أن الرسالة واضحة بمضمونها وتحمل رموز كبيرة
وعلى المشاهد قراءتها بصمت، فما بين النص والمشهد حكاية أخرى تمكّن
الألوان أن تستفيق من غفوتها لتحاكي المساحات البيضاء على جدران المسرح ،
لتسجل لحظات استوقفتها ريشة الفنان لتغزل ثوب من ثياب اللجوء نسج بالدم
والألم .
في
حين يجزم صديقي حازم أبو حميد مخرج مسرحية الحبل السرّي أن الوضع
الفلسطيني متردي جداً ولا أحد يتحدث غير السياسيين، ولابد أن يكون هناك
صوت غير أصواتهم، لأن الجميع يتغنى بآلام الشعب، والمسرحية تحدثت بما يريد
الشعب قوله، فأحلامهم وطموحاتهم وآمالهم وخوفهم على المستقبل ورؤيتهم للحل
السياسي هي أصل الرسالة التي يجب أن تصل دون أي خوف .
ولا
يختلف صديقي إياد أبو شريعة مؤلف مسرحية الحبل السري برأيه فيرى أنه بعد
62 عاماً من الاحتلال وصل الشعب إلى مرحلة صعبة مليئة بعدم القدرة على
حلول تخرج الشعب الفلسطيني من الظلمات إلى النور، فقد أصبحت مصلحة الشعب
الفلسطيني في مؤخرة الأولويات ، ورسالتها هي رسالة وحدة ، نحن مع الفصائل
وهم منا ولكن يجب أن ندير أنفسنا بأنفسنا .
في
ركنٍ منزوٍ من الحارة الضيقة .. ألصق ظهره بالجدار برطوبة لزجة تلتصق
قطراتها بحافة يده المعروقة النحيلة .. مشهد لجوء لرجل تجاوز الثلاثين
بقليل .. اليد ما زالت تنشب في الجدار الباهت المتشقق .. يتساقط الغموض،
يشعر برائحته تزحف على خشبة المسرح .. يتكوم على نفسه، السكون يحيط به.
على
مسافة قليلة تظهر ملابسهُ على جسدٍ علاه الغربة والألم .. متسربل بجاكيت
طويل ذات ثقوب غزيّة واسعة .. تتسع كلما اقتربنا من وسطها المحاصر .. رائحة طاحونة تجتاح مواطن بريء، ليصرخ الفنان مؤمن شويخ "
لافي " أخيراً في صباح باكر " يا ناس يا أهل البلد ، الطاحونة مسكرة وفيها
ميّة معكرة " ، مشهد جنوني لرجل جنوني عبّر عن تراكيب ومشاهد مختلفة من
الحياة الغزيّة ، أضحك الناس رغم حزنه، منحهم بساطة الإنسان الفلسطيني
الحالم بعيشة كريمة بعيداً عن متاهات السياسة والانقسام، رافضاً بصموده
حياة الإذلال والقهر والواسطة والمحسوبية .
انتظر
يا صديقي مؤمن، ألا ترى بأن الحزن على موت والدك ما زال يربك تقديرك
للمسائل ويخلط فكرك، يجب عليك أن لا تحاكم الأمور بوعي متماسك متوازن،
عليكَ أن تبقَ مجنوناً تتناول العناوين والشعارات هنا وهناك لتؤسس عليها
صوراً للمستقبل " الوطني " ، تراها مشوشة مشوهة فتسيء الظنون بخطط
وبسياسات " المجانين " ، الأكثر حكماً وعقلانية في وطن لا يعي قادته سر
الأحبال الملونة بعد .
من
البديهي أن تكون حزيناً، لكن هذا الحزن لا يشوش عليك وعيك بقدر ما أدعوك
للحذر لكي لا يطال الجنون أناس آخرين في وطن تبشر به هذه الشعارات
والسياسات وتعد بتغيير عظيم ، وترى أن الالتفات والصراخ اليقظ بهذهِ
المسألة ذات البعد المؤلم بكل المقاييس، يحولك من التمرد على وضع قائم قد
تجد له تعبيراً فردياً عنيفاً وغير مسئول يمكن أن يحولك ، ضمن من يحولهم ،
إلى مجنون بينما ليس من طبعك التنكر لعظمة الجنون فيك أو تتحول إلى حكيم
وأنت معادٍ بطبعك لسارقي الأوطان، إضافة إلى أن الحديث عن الوطن يصل فيك
ما بين جدك الميت والمدفون قبل النكبة وأبيك الميت والمدفون فيها، الأمر
الذي يعادل في نفسك ما بين الأمل والألم وقد يخفف من ضغط حزنك جمال الفرح
في صور السياسة الغابرة، لكن تبدد أملك عندما وجدت أن الوقت بعد الانقسام
قد صادره الموت فلم تسنح لك لحظة لعناق حريتك، بل فرض عليك أن تبحث بعد
غياب الشمس " كالمجانين " عن حبلٍ سري تلعب فيه، وتمارس رغبتك في احتضان
الحرية ومعانقتها، ليتقاطر عليك وعلى جميع الفنانين أصناف من الناس
الفضلاء جداً والشرفاء جداً والأخلاقيون جداً وكلهم من نسل الملائكة،
ويعملون جميعاً بنهج ملائكي واحد خلاصته " أننا يا مؤمن نعيش في مجتمع
سرّي، سطحي ظاهري، تعاين فيه القادة بخطاباتهم السياسية الرنانة فقط،
بأحبالهم الكبيرة الصغيرة، وببرامجهم التي تكبر باتساع عين الأم " .
الفنان
الكبير سعيد عيد " أبو خيري " من كبار الحارة الصغيرة المزدحمة باللجوء
عبّر عن سعادته لالتقاء جيلين من الفنانين وهما الجيل الأول والجيل الثاني
من الشباب، ورأى أن المسرحية بثوبها الجريء نسجت خطوطاً جريئة لإيصال
رسالة الشارع الفلسطيني من خلال مسرحية الحبل السري .
والفنان
سعيد عيد وإن كنت قد تعلمت منه الكثير عندما درسني في الثانوية العامة إلا
أنني في المسرحية رافقته كصديق لا يفارقه أبداً ، يتعلم أكثر من كلّ حرف
وكل خطوة تسير باتجاه الوطن المسافر فينا إلى قلوبنا، فهو دائم الحب
والتضحية ، لوطن لا يموت بداخله مهما انقسم ومهما انحرفت سفينته عن شاطئها
الأمين .
ولا
يختلف الحال عند الفنانين الكبار زهير البلبيسي ووائل حجو وإيناس السقا،
اللذين جسدوا لسنون طويلة برفقة الفنان سعيد عيد مشاهد مريرة للحفاظ على
كينونة الوطن، وهم يجتمعون مجدداً في هذا العمل ليؤكدوا على أن الرسالة
لابد أن تخرج من عمق الزجاجة وليس من عنقها فحسب، ليعبروا عما جاء على
خشبة المسرح بعد اشتداد الأزمة بين الشعب وقادة الفصائل الذين جاءوا
يجرّون أحبال الهزيمة الحقيقية ببرامجهم الغامضة " باشوف في حبال خميلة
وحبال رفيعة ، ما هدا بيرجع للأم إذا كانت ناصحة ومربربة بتجيب ولد ناصح
ومربرب صلاة النبي عليه ، وإذا كانت الأم ناشفة بتجيب ولد ضعيف زيها ، بس
يا جماعة بشوف حبال كبارنا ملونة ليش ، يضحك آخر ويقول: حسب لون عنين الأم "
، وهذا في إشارة واضحة إلى التمويل الذي يصل إلى الفصائل دون أن يكون واضح
الملامح وهذا الذي شكل فجوة عميقة بين الفصائل والشعب رغم أن الاثنين لا
يختلفون كثيراً سوى بمن يجيد امتلاك أحبال الدنيا، أو حبل الله الأقوى
والأطهر من كلّ شيء.
"
الحبل السرّي " .. بطاقة لنكبة جديدة طبعها الانقسام وحاربها ملتقى
الإبداع الفكري - إبحار، شفقة الأمم في أكياس من الكابونات والدقيق، خبز
دولي بنكهات عديدة مختلطة، أكلته وتمثلته في بدنك حتى لم تدري ما تخرجه من
فضلات هل هي برائحة أمريكية أم إيرانية أم أوروبية أم سورية أم ... !،
ولعلك بذلك أصبحت أول من تنشق ريح " الديمقراطية المكبوتة " في التاريخ
المعاصر ، مما أفقد حاسة الشم لديك قدرتها الفطرية على التمييز لتصبح "
منقسماً "، وربما أرادوا بقصد مضمر أن يؤهلوك للوظيفة القادمة في كلتا
الوطنين " وزيراً ومقاتلاً ومناضلاً وشيخاً ومحللاً ورداحاً " حتى "
جامعاً للقمامة " ، تدفع أمامك العربة وتدور في الأزقة بحثاً عن المخلفات
لجمعها، وتمر في جميع الحالات أمام جنود الاحتلال فيقرأون على ظهر قميصك
بأحرف أممية كبيرة " UN " ، ليعرفوا على الفور أنك شخص مهم تمتلك حصانة دولية ولا يمكن على الإطلاق أن يقتلوك .
صديقي
شيخ الفنانين كمال أبو ناصر اعتبر أن المسرحية استطاعت أن تدق أبواب
الجرأة ، وترفض جميع المحاولات لتضميد الجراح الفلسطينية من خارج البيت
الفلسطيني ، أما صديقي الفنان رامز حسن بدا متشائماً من الوضع السياسي
لكنه متفائلاً لأبعد حد من طرح المسرحية ورسالتها ، منتظراً ردود فعل
الجمهور، بينما صديقي الفنان محمد عويضة أكد على ضرورة تقطيع الأحبال
السريّة لتوحيد الشعب، فالوحدة هي الحل الأمثل وبدونها لا نستطيع تحرير
القدس والأقصى على أقل تقدير، في حين جسّد صديقي الشاعر طارق جبريل معنى
الحب والأمل والغضب والثورة على من يريد أن يأخذ الوطن إلى خارج الوطن "
وجميعهم الفنانين كمال ورامز ومحمد وطارق ، جسدوا أدوار الفصائل التي
تمسكت بأحبالها الملونة وبرامجها المخدرة بحقنة الأغراب " .
أما
الفنان كاظم الغف فقد دعا إلى ضرورة اكتساب رسالة المسرحية لتصبح حقيقة
جادة لواقع جاد يحترم دماء الشهداء ومعاناة الأسرى بعيداً عن أي تدخلات
خارجية أوصلتنا لأن نقتل بعضنا البعض، ووافقته الرأي الفنانة كاميليا
الجمل التي تظهر لأول مرة على خشبة المسرح بظهور وطني صادق جسدت سيدة
فلسطينية تعيش تفاصيل المخيم ، تحلم لو أنها تنجب طفلاً يشاركها إحساسها
في البحث عن وطن في داخل قادة الوطن ، تماماً كما أراد الطفل الفنان
إبراهيم أبو درابي .
فعندما
يوارى الفنانين جثة وطنهم فلأنهم عاجزين عن دفن الانقسام وهو أمر مستوعب
فوق طاقة الفلسطينيين، لكنه دليل على أنهم إذ يمارسون طقوساً خاصة بالفن،
فإنما يؤكدون أن لديهم قيم حضارية ترقى بوفائهم للوطن إلى رسالات روحية
عليا تنسبهم وتصلهم للشعب ومنهم إلى القادة، لكن هذا كله يمر في لحظة
عابرة تنتفي وتغيب من بعدها أي قيمة روحية فيبقوا فرادى لا يصل أحد بمن
حوله حب ولا وفاء، فلا يضيره من يموت أو من يحيا وسط زحام الانقسام .
إذا كنتم لا تستطيعون دفن الوطن هذا أمر طبيعي، فسارعوا
إلى دفن الانقسام الأمر المحتّم عليكم والمفروض، لكن لماذا بعد أن
تتعاجزوا عن دفع ضريبة انقسامكم تتهمون الشعب بالصمت والسكوت ؟
وإن
كانت مسرحية الحبل السرّي أضفت بجرأتها على الجرأة ذاتها، لم تخلو من
رسالة الأطفال الذين بدلاً من أن يجسدوا أدواراً لأحلامهم البسيطة، جاءوا
صغاراً كباراً ليقفوا على خشبة المسرح لربما يستفيق الكبار الكبار من
لعبتهم الطويلة، فهم هؤلاء الأطفال الفنانين الصغار من مركز القطان للطفل
استفاقوا وكبروا قبل موعدهم " الفسطلوجي " الوطني، وعرفوا أن لعبة " نط
الحبل ، والحجلة ، وصفط " أجمل بكثير من تلك اللعبة ، على الأقل يخسر من
يخسر ويفوز من يفوز ثم يعاودوا اللعب من جديد دون أي خطر، بينما في اللعبة
الأخرى الكبار كبار، والصغار الصغار، والشعب " الله يقطع شره ما بيرحم
القادة من كتر الطلبات " .
علّ
رسالة الأطفال هذهِ ترجمها صديقي الفنان الاستعراضي وحيد أبو شحمة وأكد أن
أغنية قصة شعب الذي جُسدت بلوحة استعراضية من أطفال مركز القطان جاءت
كعملية تلخيص لما يدور في المسرحية ، فالفنانون تحدثوا بلسانهم ومشاعرهم ،
ولكن الأطفال عبروا عن الإحساس ذاته والمشاعر ذاتها دون أي كلمة .
وإن
كان صديقي وحيد قد جاءني متسائلاً إن كنت رأيت طفلته الصغيرة أم لا، فقد
كان كمن يبحث عن وطنه الذي يمنحنه الحنان فيأخذ الحنان ، فتصبح الطفولة
بعفويتها مركزاً هاماً للبحث بين الأمكنة عن " براءة " التي تصبح فيما بعد
" كرامة " .
وهو
الإحساس ذاته الذي تملك الصحفية سحر بنا التي جاءت من وسط الجمهور الكبير
لتمنح طفليها المشاركان في الاستعراض دفعة حنونة بطعم الوطن، ولعلي لامست
اهتمامها بنجاح طفليها من خلال تواجدها في غرف الكواليس وسرعان ما أجدها
على خشبة المسرح، أو تجلس بين الجمهور تلوح بشارة يديها ، إما فخورة أو
إما تصفق برفق مع تناغم الأغنية الوطنية .
مسرحية
الحبل السرّي .. ذاك الإحساس المفعم برأفة شعب يتمنى لو أن القادة بدلاً
من أن يكونوا قادة أنفسهم بأسرار خطرة ، يكونوا قادة لشعب اختارهم وسلّم
لهم الأمانة على حقيقتها دون أي تغيير في ملامح الوطن، ودون مسارات مغلوطة
لا تقدم سوى الخبز العفن بأسماء مستعارة لا تريدنا في نهاية المطاف إلا أن
نبقى منقسمين دون حب أو تسامح .
وأجزم،
بأن الحقيقة مهما كانت قاسية فهي التي تغزل ثوب الوطن بألوانه المزدهرة
بصناعة وطنية، بعيداً عن المجاملة السياسية والرهان القاتم ، واللعب على
طاولات الحوار التي صيغت أهدافها بمنظار لا يمثل على الإطلاق الهمّ الوطني
بقدر ما يمثل الأحبال السرية التي تفوقت على حب الوطن .
أعلم
أنكم في ملتقى الإبداع الفكري – إبحار ، قد جندتم كل إمكانيات الخيال
والإبداع عندكم للبحث عن هذا المنفذ والعثور عليه فاستطعتم في غفلة من
الانقسام ، أن تهدموا أسوار السجن لتنفذوا عبرها نحو تلك المساحات الرحبة
حتى يبين لكم بعد أن صرخ عليكم السجّان فأيقظكم من الغفلة، أن الوطن بغير
الوحدة والحرية أضيق من زنزانة، وأن المعرفة حتى لو أورثتك الحزن خير من
حرية جاهلة لا تنتج فرحاً حقيقياً، بل خير من حرية نائمة غافلة يوقظكم
منها رصاص الانقسام .
صدقاً، حبل الله أقوى بكثير من أحبالهم .. فلا تجعلونا نموت عرايا في قبورٍ لا تقبل الدفن مرتين .
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/