انتحار منال
في
طريقها إلى المدرسة النظامية في بيت حنينا بالقدس بينما كانت منال تسير في
الطريق الرئيس من بيتها قرب محلات جنة عدن، فجأة توقفت سيارة بيضاء اللون
بالقرب منها، فتح أحد الجالسين فيها شباك السيارة وناداها باسمها:
- منال تعالي.
خافت
منال ، وابتعدت قليلا عن الرصيف، فقد تعودت أحيانا على معاكسات بعض
الشباب، تجاهلت النداء، لكن صاحب الصور لم يستسلم فناداها للمرة الثانية
قائلا:
- منال تعالي نحن من المخابرات.
كان يتكلم العربية بطلاقة، كأنه من أبناء القدس العرب.
ازدادت خوفا، نظرت إلى السيارة، فرأت أحد رجال المخابرات اليهود، يرفع يده من الشباك حاملا إشارة شرطة ثم كرر عليها القول:
- نحن مخابرات، تعالي قبل أن نأخذك بالقوة.
نظرت
حولها لعل أحدا ينجدها، لم ينتبه إليها أحد، كان الوضع عاديا، والطلبة
يسيرون في الاتجاه الآخر من الشارع. احتارت ماذا تفعل... توقفت وسألته:
- ماذا تريد مني؟
- معنا صورة لك تعالي.
- صورة؟! أي صورة؟
اقتربت
قليلا، وقفت بالقرب من السيارة. أخرج الكابتن سليمان كما كان يسمي نفسه
صورة من حقيبته اليدوية التي اشتهر بحملها مثلما تحمل النساء حقائبهن،
وقدمها لها.
لم تصدق، اهتز بدنها، كادت تقع على الأرض كانت صورتها عارية، وشاب يضع يديه على نهديها، صرخت.
- هذه ليست صورتي.
قال لها الكابتن سليمان مبتسما بعد أن سحب الصورة:
-
لا تخافي، نحن يهمنا مصلحتك. اصعدي إلى السيارة لنتفاهم. صعدت منال إلى
السيارة، في الوقت الذي كانت عالية، زميلتها في الصف في نفس المدرسة قد
اقتربت من المكان. هذه السيارة ليست غريبة على الطلاب إنها تشبه سيارة
المخابرات.
لم
تستطع منال أن تقاوم تهديد رجال المخابرات الذين كانوا عن طريق أحد
جواسيسهم، صاحب أحد صالونات الحلاقة للنساء قد ساعدهم قبل عدة أيام على
الإيقاع بها، بعد أن جاءت لتصفف شعرها للمشاركة في احتفال زفاف قريبتها
سحر، فقد قام صاحب المحل بتقديم كأس من الليمون لمنال مخلوط بمخدر قوي ثم
قام بتصويرها وهي عارية كما طلب منه.
الآن
عرفت منال لماذا عادت إلى البيت ذلك المساء وهي تشعر بتعب شديد. كانت
تعتقد أنها ذهبت في غفوة ورأسها تحت ماكينة تجفيف الشعر. إذن فعلها
الكلاب. نالوا منها، من شرفها، من كبريائها.
جاسوسة لهم؟
قال لها الكابتن سليمان:
- إما أن تعملي معنا أو نوزع صورك على الطالبات؟
خافت من التهديد، شعرت بدوار حاد في رأسها ماذا لو عرف أبوها وأخوها وأمها؟
أسئلة
كثيرة دارت في رأسها لم تعرف لها جوابا، ولم تعرف القرار الأصوب، فانهارت
موافقة على التعامل مع الكابتن سليمان، قال لها مبتسما ابتسامة صفراء بعد
أن انهارت أمامه:
-
لا نريد منك أن تكوني جاسوسة، نريدك أن تخبرينا فقط عن المشاغبين الذين
يحرضونكن على المظاهرات، ويعطلون دراستكن. المسألة سهلة جدا يا منال، في
الصباح الساعة السابعة تقفين على بعد أمتار من محلات جنة عدن، سنمر من
هناك، نقف بجانبك لدقيقة تقولين لي فيها عن أية مشاغبات محتملة، تواصلين
سيرك إلى المدرسة.
صمت ثم أكمل؛
- إن خدعتني، سأضطر لتوزيع الصور.
بعد أيام كانت منال تقف في المكان المحدد صباحا، فجأة توقفت سيارة حمراء وقفت قريبة منها، فتح الشباك، سمعت صوته يناديها.
- منال!
نظرت فإذا هو نفسه، اللعين سليمان، اقتربت منه مرتعبة. سألها:
- هناك مظاهرات ستحدث غدا؟ فما أخبار المدرسة النظامية؟
ترددت، فصرخ بها:
- يا( .......) سأوزع صورك الآن.
فقالت له بسرعة.
- سيشاركن غدا في المظاهرة.
- ومن التي تتزعم التحرك؟
- إنها،… إنها عالية...
أحست
بأنها فقدت آخر إحساس لها بالكرامة، وأنها أصبحت الآن عارية من كل شيء رغم
ملابسها التي تغطي جسدها، بينما انطلق هو مع سائقه بالسيارة بسرعة فائقة.
كانت
شاردة الذهن تتمنى لو تنشق الأرض وتبلعها أفاقت من شرودها بعد أن اقترب
منها رجل في الأربعين من عمره كان يراقب من بعيد ما يحدث، يعرف الكابتن
سليمان جيدا فقد اعتقله في العام الماضي.
نظر إليها بغضب وقال لها:
- جاسوسة للاحتلال؟! تفوه، وبصق على الأرض.
الآن
أحست بالسكاكين تطعنها، احمر وجهها، أحست بدوار مرة أخرى خافت من فضيحة،
فوقعت في مصيبة أخرى، لم تعد تعرف أي المصائب أهون عليها، تابعت طريقها
إلى المدرسة وهي تتمتم:
-
كنت أمام مصيبة، أنا الآن أمام مصيبتين، لا مجال للتهرب من أي منها. يا
حظك يا منال، ماذا سيقول أبوك عندما تبدأ الفضائح تنهال عليه؟ ماذا سيقول
أهلي، عمي أبو صالح لو عرف أنني جاسوسة سيذبحني، ماذا سأقول لعالية لو
عرفت؟ وماذا لو نشروا صوري؟ هل سيقتلونني. لعنك الله يا صاحب الصالون، يحب
أن تلقى جزاءك. يجب أن تدفع ثمن أعمالك الشيطانية.
فجأة تذكرت التمثيلية السورية التي شاهدتها قبل شهر عندما يقف فيها البطل أبو عمر ليقول لزوجته في نهايتها:
- مئة حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خاين يا خديجة!
ليتها كانت المشنقة لكانت أهون من الصور التي هددوني بها، ليتهم خيروني بين الموت وبين التجسس لحسابهم لاخترت المشنقة.
في
الليل وقبل بزوغ فجر اليوم التالي كانت قوات الأمن قد اعتقلت عالية وعددا
من طالبات المدرسة، فتعطلت المسيرة، شعرت منال بحجم الضرر الذي ألحقته
بعالية، أحست بالعار، وقررت التوقف عن التعامل مع الكابتن سليمان حتى لو
وزع الصور. لم تعد تنتظره في المكان الذي تعودت انتظاره فيه، لكنه لم ييأس
فانتظرها بعد أيام قريبا من البيت، وما إن خرجت حتى لحق بها خافت أن
يلاحظها أحد، توقفت، نظرت إليه، وبحركة لا إرادية بصقت عليه:
- تفوه عليك، انصرف واحد كلب.
ثم تابعت سيرها إلى المدرسة. أما هو فقد غادر المكان دون أن يرد عليها.
وصلت
المدرسة وهي تشعر أنها استعادت بعض كبريائها الذي دمرته الصور. دخلت
المدرسة، كانت الطالبات تتجمع في الساحة، يتهامسن، ويسترقن النظر إليها.
أحست
بشيء يحاك ضدها. اقتربت منهن، فابتعدن عنها، شاهدتهن يمررن صورا عليهن،
لعلها صورها دون أن تدري. فجأة اقتربت منها صديقة لها تدعى رحاب وقالت لها
معاتبة:
- ما هذه الصور يا منال؟ كيف تسمحين لأحد بأن يصورك عارية؟ هل جننت؟
عرفت
منال أن نهايتها قد اقتربت. حملت حقيبتها المدرسية، وخرجت من المدرسة تبكي
وتجرجر وراءها تعليقات الطالبات عليها. على الفور ذهبت إلى أقرب صيدلية في
منطقة شعفاط. اشترت نوعا من المخدر وعندما وصلت البيت، شربت ما في العلبة
كلها. فوجئت أمها بعودتها صباحا مدعية أنها مريضة. لكنها بدأت تصرخ عندما
وجدت ابنتها مرمية على الأرض وبجانبها علبة الدواء.
- منال؟! منال؟! ماذا حصل يا منال؟
على الفور تقاطر عليها الجيران وساعدوها بنقل منال إلى مستشفى المقاصد بالقدس.
في
المدرسة انتقل الخبر إلى غرفة المعلمات. فسارعت المعلمة إلهام بتطويق
الحادث، على الفور جمعت جميع الصور التي قام مجهول بتوزيعها على بعض
الطالبات، وعرفت إلهام بحسها الوطني أن هذا عمل من أعمال المخابرات، وأنها
قد مارست هذا العمل الدنيء لرفض منال التجسس لصالحهم ضد زميلاتها في
المدرسة. كانت إلهام قد جربت الاعتقال وخبرت ممارسات المحققين.
جمعت
المعلمة إلهام الطالبات اللواتي كن يتبادلن الصور وشرحت لهن أهداف
المخابرات، وطالبتهن بالوعي والحذر من الأسافين التي يزرعها العدو بيننا.
تنبهت الطالبات للمأزق الذي وُضعت فيه منال، وسألن المعلمه ما العمل؟
- علينا جميعا زيارتها في بيتها، وتشجيعها على الصمود.
سألت إحدى الطالبات:
- ولكن كيف استطاعوا تصويرها؟
قبل أن ترد إلهام، كانت عالية تدخل الصف، فقد أفرجوا عنها ليلة الأمس في ساعة متأخرة.
كانت البنات سعيدات بخروجها من السجن، وانهالت القبلات عليها من البنات، ومن المعلمة إلهام.
سمعت عالية بما حصل مع منال فوقفت أمام الطالبات لتدعم رأي المعلمة إلهام، ثم قالت لهن بصوت يعبر عن اعتزاز بالنفس:
- الصور التي وزعت عليكن ليست لفضيحة منال فقط، إنها لقتلكن جميعا، لإرهابكن بأن لا ترفضن طلبا لهم.
اليوم منال، وغدا خديجة، بعدها عبير، والقائمة تطول.
هم
يوزعون الصور لأنهم يشعرون أنها تساعدهم في تحقيق أهدافهم، بأن ننهار
أمامهم، ونتخلى عن أحلامنا. ردنا عليهم يجب أن يكون بالصمود، ورفض
الابتزاز. أما الجواسيس الذين ساعدوا على الإيقاع بمنال فعلينا جميعا
فضحهم ومحاربتهم، والاقتصاص منهم، وأنا مع المعلمة إلهام، سأكون أول
اللواتي يزرن منال في بيتها. لا لن نسمح لهم أن يصطادوا واحدة منا.
بعد الظهر توجه وفد من الطالبات بصحبة المعلمة إلهام إلى بيت منال لكنهم فوجئن أنها نزيلة المستشفى فتحول الوفد إلى هناك.
فوجئت منال بالمعلمة إلهام والطالبات يدخلن عليها. تساءلت لماذا جئن؟ هل يردن التشفي بها؟
- الحمد لله على السلامة يا منال. ثم عانقتها المعلمة إلهام.
ارتعبت خوفا، لم تصدق ما ترى، كن في الصباح يتهامسن عليها، ما لهن الآن يهنئنها بالسلامة؟
هذه عالية تتقدم من بينهن، تبتسم، تضحك تحمل باقة ورد، عانقت منال وقبلتها بحرارة.
- الحمد لله على سلامتك يا أحلى منال.
كانت
منال في حالة يرثى لها وبحانبها أمها، وأبوها اللذين لم يعرفا بعد قصة
الصور. خرجا من الغرفة ليسمحا للطالبات التحدث براحتهن معها. تعقد لسان
منال، أهذه عالية التي كانت تشي بها قبل أيام للكابتن سليمان؟
ترى هل عرفت بذلك؟ هل أستحق قبلتها؟ هل أستحق عطفها وعناقها؟
ردت بصوت خجول عليها، وعليهن جميعا:
- شكرا، الله يسلمكم جميعا.
بعد ذلك تناوب الجميع بمعانقتها.
هنا بدأت المعلمة إلهام حديثها لمنال:
-
جئنا لنقول لك، لا تخافي، نحن معك، سعداء لأنك على قيد الحياة. أنت ابنتنا
وتاج رأسنا ولن نسمح لأحد أن يغير نظرتنا إليك. نحييك أنك لم تستجيبي
لتهديداتهم.
نظرت إليهن مستغربة ثم قالت:
- ولكن ...
عالية ردت عليها:
- لا تكملي لا يوجد ولكن...
- عالية أنا... (وبدأت تبكي)...
ردت عليها عالية بسرعة:
- عرفنا ما تتعرضين له، لا تكملي، جففي دموعك.
عانقتها مرة أخرى وهمست في أذنها:
- لا تخافي، لقد اكتشفنا صاحب صالون الحلاقة، فقد أوقع غيرك، الشباب سيعاقبونه، اصمدي يا منال، أنا سامحتك، سامحناك.
قبلتها بجبينها ثم أكملت هامسة:
- منال، نريدك معنا، الرد عليهم أن تكوني معنا.
نظرت إليها منال وهي تمسح دموعها وسألت باستغراب:
- أنا؟ وأشارت إلى نفسها.
فردت عليها عالية بايماءة من رأسها.
- ولكني ضعيفة!
فقالت عالية:
- كُنتِ ضعيفة، وعندما قلت لهم لا، اكتسبت قوة. لم يبق ما تخافين عليه منهم.
حركت
يديها بحركة عفوية وعانقت عالية بحرارة بعد أن وقفت وهي تذرف دموع الفرح
على أكتافها، كانت المعلمة إلهام والطالبات، يصفقن لهذا المنظر الرائع،
فتح الباب والداها ليعرفا سر هذا التصفيق، وانضما للطالبات يصفقان معهن
لعناق ابنتهم مع عالية الذي استمر طويلا دون أن يعرفا سر هذا العناق
الأخوي الرائع.