الهيبة (1/2)
(1) هيبة الحكم
قال أهل التاريخ : فعزم أبو جعفر المنصور على إعادة بناء الكعبة فبعث إلى مالك بن أنس يستشيره فقال له مالك رحمه الله : (( يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإني أخشى أن يكون بيت الله بعدك ألعوبة للملوك ، فتذهب هيبته من القلوب )) .
والذي يعنينا من هذا النبأ قول الإمام مالك : (( فتذهب هيبته من القلوب )) إن لكل شيء هيبة هي سر بقائه وانتفاع الناس به فمتى ذهبت لم يعد له أثر يحمد ونفع يذكر .
حاجة الناس إلى ولي أمر يأمن في حكمه الشاكر ويرتدع الفاجر أعظم من حاجتهم لأي شيء ، لأن كل شيء يتعذر قيامه إن لم يكن الأمن قائماً ، ولا يكون هذا أبداً من غير هيبة حكم ، والناس وإن ادعوا الرغبة في الإصلاح ومحاربة الفساد إذا رضخ لهم الحاكم الأمر وخفض لهم الجناح (( ضعفاً )) ركبوه ، ولم يبالوا في أي واد هلك .
والذين ثاروا على عثمان رضي الله عنه كانوا يزعمون أول الأمر أنهم يريدون أن يعيدوا عثمان للجادة وسنة الشيخين قبله ، فلما خفض لهم الجناح ونهى الناس عن قتالهم وكف يده وأغلق داره لم يزدهم ذلك إلا طغياناً وتجبراً ، فكان أن حرقوا داره وقتلوه وسلبوا ما كان في بيت المال وآذوا زوجته وقتلوا غلاميه .
فجمعوا بين القتل والنهب والتعدي على الأعراض وأعظم من ذلك التعدي على حرمة الخلافة ، كل هذا وهو يزعمون الإصلاح .
كما يحكى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لم يبالوا بحرمة الشهر (( ذي الحجة )) ولا حرمة البلد (( المدينة )) ولا حرمة (( الخلافة )) فضلاً عن حرمة دمه رضوان الله عليه ما تلألأت النجوم وتلاحمت الغيوم .
إن أي سعي لإذهاب هيبة الحكم إنما هو فساد في الأرض ، سواء كان ذلك مظاهرات أو اعتصامات أو نداءات أو غير ذلك ، فليس شيء من هذا من السنن الشرعية في التغيير بل هو من السنن الكونية ، وليست كل سنة كونية أذن الله بها ، فوقوعها وأثرها أياً كان لا يعني بالضرورة جوازها ، فالله - مثلا ً- حرم شرعاً قتل النفس المؤمنة عمداً بغير حق ، وأذن به جل وعلا قدراً ، فهو يقع كل يوم بل كل ساعة .
والمقصود أن الله أوجب على الراعي مسؤوليات عظام ، وعلم جل وعلا أزلاً أنها من الثقل بمكان ، ولهذا لا أحد يسبق الإمام إذا عدل في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .
فإن وقع منه التفريط أو الإفراط فثمة طرائق شرعية منوطة بأهل الحل والعقد ، يلتمسونها حتى يستقيم الحال وينجلي الفساد أو يقل .
أما إشراك العامة في شأن الأمة العام كباراً وصغاراً أبراراً وفجاراً عاقلاً وسفيهاً والاحتكام إلى الشارع ، فهذا مخالف للعقل قطعاً وهو بهذا مخالف للشرع ، إذ يستحيل أن يتعارض العقل والنقل .
وإن من لوازم أن ينحى حاكم بناء على رأي الشارع فيه أن يًُقبل قولهم في صياغة النظام الجديد ، فليست الأولى بأولى من الثانية ، فهل يعقل أن يستوي في الواقع والأثر والعدد رأي الشيخ المجرب والكهل المتعلم مع رأي السفيه الأرعن والمرأة الضعيفة والصبي اللاهي ؟.
لقد حذر النبي r من زمن ينطق فيه الرويبضة ، وبين أن الرويبضة الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ، وليس المقصود بالتافه من قل ماله أو سملت ثيابه فالإسلام لا يحتقر أحداً ، لكنه الضعيف العقل كيف يقبل رأيه مع ضعف عقله في مسائل عظمى تزل فيها أقدام وتحتار فيها أفهام .
وعليه فإبقاء هيبة الحكم ومعرفة حرمتها مع القيام بواجب النصيحة وسؤال الله صلاح الحال والمآل ، هو الطريق الشرعي لكل نازلة عمت وظلم يقع وفساد يحل } والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون { .
ولهيبة الحكم طرائق شرعية وكونية :
· فأما الشرعية فتعظيم أمر الله وإجلاله ومن صور ذلك تعظيم القرآن وأهله ، ونشر السنة وإقامة شعائر الدين الظاهرة ، والافتخار بالانتساب إلى دين رب العالمين والاعتزاز به .
· ومنها أسباب كونية قدرية ، ومن أعظمها عدم انقطاع الحاكم عن لقاء الناس حتى لا تظن به الظنون ، وتكثير سواد الشرط فلهم في العيون مرآى وهيبة ، وإنفاذ الحدود الشرعية عاجلاً لمن حكم عليه بها شريفاً كان أو ضعيفاً ، ومحاسبة المقصرين ومكافأة المحسنين ، وفي صريح التنزيل } قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً { .
والاستعانة بعد الله بأهل الفضل والمروءات وذوي الرأي والحجا، ومعرفة قدر من لهم في الناس أثر مثل العلماء ومشايخ القبائل وأعيان الأسر ، وفي وصايا بعض العلماء لابنه (( يا بني لا تتقدم على من قدمه الناس )) .
فإذا ثبت هذا فليس من المقبول ما يعرف اليوم بالبيانات التي يدونها بعض المثقفين والفضلاء بحجة النصيحة ، وفيها من المطالب ما يفهم منه أن المراد التقويض لا البنيان ، والوصول إلى الكراسي لا إصلاح أصحابها ، وقد يكون هذا غير مقصود لمن كتبه لكن الكلمات إذا دونت وقرأت خرجت من قصد صاحبها إلى فهم قارئها ، وفيها ما يذهب شيئاً كثيراً من هيبة الحكم ، إذ إن مثل هذه البيانات يتناقلها الناس ويتدارسونها في مجالسهم وأنديتهم وهم يختلفون قطعاً - عقلاً وقصداً- وليس كلهم إن سلمت نيته سلم عقله أو إن سلم عقله سلمت نيته ، فيحدث من إثارة الضغائن وبث الفوضى ما يدفع الأحمق أن يتجرأ ، والسفيه أن يتطاول .
وإذا وجد في زمن النبوة من لم يرتضِ إمرة أسامة بن زيد فلن تعدم في زمانك من لم يرتضِ إمرة غيره .
ولا يفهمن متعجل أن المقصود إطلاق يد الحكام ليفعلوا في الناس ما يشاؤون – معاذ الله – لكن الأمور تصلح بالشرع ولا شيء غيره ، والشرع قيد وأي قيد وتحرر الحكام منه يجعله يبوؤن بإثمه لكن ليس الصواب أن نتحرر نحن من قيد الشرع فنكون سواء .
وكل ما حررته أردت به الإجمال والصفات لا التفصيل والذوات ، أما ما نحن فيه في هذه البلاد المباركة ، فإن الواقع أعظم الشهود احتكام للقرآن وائتلاف للقلوب ووحدة كلمة ، وهي نعمة عظمى ومنة جلى ، والتقصير واقع وحاصل ، فلا ينبغي أن ينقطع حبل الناصحين لكن وفق هدي دين رب العالمين .
إننا نحترم ما اختارته بعض الشعوب العربية لأنفسها ، ونسأل الله لهم صلاح الحال والمآل ، لكننا نخشى عليهم من أمر تذهب سكرته وتبقى حسرته .
وندرك تماماً أن سنن الله تقضي أن لا يترك ظالم على ظلمه فكيف إذا كان ظلمه أن جعل كتاب الله وراءه ظهرياً .
جاء في بعض الآثار أن موسى سأل ربه : ( أي رب أرني عدلك ، فأمره الله أن يذهب إلى نهر فينظر ما يكون ، فجاء فارس معه صرة فيها مال فشرب من النهر ثم مضى ونسي الصرة ، فأعقبه صبي على مكانه فأخذ الصرة بمجرد أن رآها ومضى ، ثم جاء رجل أعمى للمكان نفسه ليشرب ، فعاد الفارس يبحث عن الصرة ، فسأل الأعمى فأخبره بأنه لم يجد شيئاً ، فاعتاظ الفارس منه وقتله ومضى ، فقال موسى : أي رب أين عدلك ؟ فأوحى الله إليه : أما الفارس فقد سرق الصرة من والد الصبي فأعدتها إليه ، وأما الأعمى فعندما كان مبصراً قتل والد الفارس من قبل فجعلت ابنه يقتص منه ، فنال كل أحد في الدنيا حقه، } ولا يظلم ربك أحداً { .
وأكثر ما نراه حولنا اليوم قريب من هذا ، } وما يعقلها إلا العالمون { وسنتدارس إن شاء الله في الحلقة القادمة هيبة (( العلم )) .
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/