ترانزيت عربي
قصة قصيرة
باقر جاسم محمد
لست أدري أين فقدت حقيبتي اليدوية التي احتوت في داخلها أهم أوراقنا الشخصية: جوازي سفري أنا و زوجتي هند عبد الله، فضلا ً عن مبلغ حوالي ثلاثمائة دولار، و أوراق و مستمسكات معاملة للهجرة إلى استراليا، و صور أبنائي الذين سبقوني إلى تلك البلاد. كنت أشعر بالاحباط يتصاعد في داخلي مع كل خطوة و أنا أتجه إلى الشقة التي استأجرناها منذ يومين. ترى ماذا ستقول زوجتي حين تعلم بالأمر؟ ليتها كانت معي لحالت دون هذا الضياع و الفقدان! لكنها كانت تشكو من الصداع النصفي و فضلت البقاء في الشقة. ترى أين أنا الآن؟ أتذكر أنني في ضحى هذا اليوم كنت أسير في سوق عالية السقف مزدحمة بالناس في هذه المدينة التي لم أعد أعرف اسمها: أهي مدينة القاهرة أم عمان أم بيروت أم تونس؟ يا ترى هل أنا في حلم؟ لست أدري. ثم فجأة شعرت بوخزة في قدمي اليسرى، وضعت حافظة أوراقي و نقودي جانبا ً، و قمت بنزع فردة حذائي اليسرى فاكتشفت أن مسمارا ً صغيرا ً قد خرق الحذاء و أخذ ينخس في لحم قدمي. نزعت الجورب و نظفت مكان الجرح الصغير، ثم نزعت المسمار بمفتاح الشقة، و ارتديت فردة الحذاء. كان الألم حقيقيا ً و كذلك الدم الذي ما زالت بقاياه فوق منديلي. ربما كنت أحلم و استفقت، أو ربما كنت مستفيقا ً و دخلت عالم الحلم. لا أدري. رفعت رأسي فرأيت بعض الشباب و هم ينظرون إلى باستغراب. شعرت بالاحراج. وأسرعت بالسير دون أن التفت. مشيت لفترة ليست بالقصيرة. ربما لمدة ربع ساعة. ثم فجأة توقفت. كانت يداي فارغتين، فصعقت. ترى أين تركت الحقيبة التي تحتوي أوراقي المهمة؟ لست أدري. تلفت يمينا ً و شملا ً، ثم تذكرت آخر عهدي بها حين أحسست بالمسمار يخزني في قدمي اليسرى. عدت مسرعا ً و أنا أكاد أركض حتى وصلت المكان المقصود. لم يكن هناك أثر لمحفظتي. سألت صاحب دكان قريب من مكان توقفي لمعالجة المسمار عن الحقيبة فقال أنه كان مشغولا ً بالزبائن و لم يلحظ وجودها أو من أخذها. شعرت أنني أنزل في قبو معتم. كيف سأركب إلى الطرف الآخر من المدينة و أنا من دون نقود؟ على أن أواصل السير. فجأة رأيت على البعد صديقي أحمد مسعود، و لكنه تظاهر بأنه لم يرني و أسرع في الدخول إلى أحد الأزقة المتفرعة من السوق. أو لعله لم يرني فعلا ً، لم أتهم الآخرين. كنت أقف في منتصف السوق الآن دون أن أملك الجرأة على الحركة و السير. إلى يميني هناك محل كبير يبيع بالونات. و كل بالون يحمل علم أحد البلدان العربية، و قد نفخ صاحب المحل أثنين و عشرين بالونا ً و علقها في مقدمة المحل. تذكرني هذه البالونات بطفولتي حين لم تكن الباونات بهذا الحجم و لا بهذه الألوان. كانت ألوانها لا تتعدى ألوان الطيف الشمسي. سمعت بائع البالونات يحدث أحد الشارين الذي استعظم سعرها قائلا ً:
- هذه البالونات صناعة أمريكية مفتخرة و تدوم طويلا ً. و هناك بالونات تحمل أعلام عربية مصنوعة في بريطانيا و في فرنسا و الآن تتوفر لدينا أعلام صناعة إيرانية.
قلب المشتري شفته، ثم أدار وجه و غادر المكان. في الأثناء حدث هرج و مرج حين ظهر شاب متوسط القامة و ممزق الملابس. كان قذرا ً كأنه لم يغتسل منذ دهر. لقد انبثق فجأة في السوق كأنه دخل من أحد الأزقة. و كان يمسك بعصا ذات طرف حاد و مدبب مثل رمح، و يكاد طولها يماثل طوله، و هو يطوح بها مثل الفتوات في الأفلام المصرية. صاح أحد أصحاب المحلات التجارية:
- المخبل سعيد مرة أخرى! إحذروا تصرفاته.
قال أحد المارة:
- يبدو هذا الشاب مسكينا ً. تعال يا ولدي، خذ هذه نصف ليرة.
ضحك المجنون سعيد بضراوة و قد تألقت عيناه الحمراوان بشعاع أشعرني بالخوف. أخذ نصف الليرة من الرجل و رماها خلفه. قال أحد المارة معقبا ً على تحذير صاحب المحل التجاري:
- أنه إنسان مسالم. أنا أعرفه. و أسمه سعيد جبران ناجي.
ارتجفت يداي و ذهلت لسماع اسم المجنون الذي كان منشغلا ً في النظر إلى واجهات المحلات التجارية و أطلاق ضحكته الوحشية. كان اسمه مطابقا ً لأسمي. ثم على حين غرة وقعت عيناه على البالونات التي تحمل صور أعلام الدول العربية. توقف هنيهة. ثم بدون تردد، توجه نحوها و أخذ يخز البالونات بالرأس المدبب لعصاته فتنفجر الواحد تلو الآخر و ما أن أوشك أن يخز بالون علم فلسطين حتى هجم عليه صاحب المحل و قال:
- ستخرب بيتي يا مجنون.
لم أتحرك من مكاني و قد هيمن الذهول على حواسي. ثم رأيت الناس يتجمعون و يتدخلون لحماية المجنون من صاحب المحل و يحضونه على مسامحته بينما ظهر فجأة بعض رجال الأمن و تولوا معالجة الأمر. فتر اهتمامي بما حدث فأخذت بالسير في اتجاه موقع الشقة في منطقة العبدلي. تذكرت الآن أننا في عمان، و ليس في القاهرة أو في بيروت أو تونس. و أثناء السير كنت أحاول أن أجد طريقة لتخفيف وقع خبر فقدان المحفظة و ما تحتويه على زوجتي. فكرت أنني قد تركت بعض النقود معها. إذن ستسير الأمور على ما يرام لفترة قصيرة من الزمن. و لكن المشكلة أنني و زوجتي قد أمسينا شخصين بدون أوراق ثبوتية. ربما يهون من الأمر أنني ما زلت أملك هوية الأحوال الشخصية، و كذلك زوجتي. ترى هل سنحقق حلم الرحيل إلى استراليا بعد كل هذا العناء و الانتظار؟ أتذكر حين سألني الموظف المسؤول عن الهجرة عن أسباب رغبتي في الهجرة و أنا في الخمسينات من عمري، قلت له: إذا كان على الإنسان أن يختار بين أن يكون قاتلا ً أو قتيلا ً فأنني أرفض الخيارين معا ً، و أبحث عن أرض تأويني لأعيش بسلام. استمع إلى كلامي و لم يقل شيئا ً.
على أية حال، ما زالت لدي بطاقة الأحوال الشخصية. لست أدري لمَ تذكرت قول ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود". قلت في نفسي، "أنا أحمل هوية، إذن أنا موجود." أخرجت البطاقة من جيب القميص و أعدت تفحصها لكي أتأكد من حقيقة أنني ما زلت أحمل شيئا ً يدل على هويتي. كانت صادرة من وزارة الداخلية، جمهورية العراق، دائرة الأحوال الشخصية في محافظة بابل. و كانت صورتي الملونة التي تظهرني في سن أكبر من عمري الحقيقي بحوالي عقد من السنين و في اسفلها الختم الفسفوري و إزاء الختم أسمي الثلاثي: سعيد جبران ناجي. حمدت الله. وضعت البطاقة في جيب القميص. رفعت رأسي لأكتشف أن السماء رصاصية اللون فازددت هما ً، ثم أسرعت الخطا نحو الشقة.
الحلة/ 20/11/2010