خريف البطريرك ... مرة أخرى
مجلة الرواية
عبد الكريم كاظم - الرواية الأزلية لغابريل غارسيا ماركيز ( خريف البطريرك ) تحكي على العكس تماماً من روايته المشهورة ( مائة عام من العزلة ) ، فهي تتناول قصة طاغية من طغاة أمريكا الوسطى في وطن لم يحدده الكاتب من منطقة الكاريبي ـ وهذه أشارة بالغة الأهمية تتميز بالوعي الحاد لدى الرائي ـ ، من هنا نستطيع الافصاح عن الصعوبة الكبيرة والرئيسية التي تواجه القارئ في هذه الرواية والتي تكمن أساساً في عملية أعادة ترتيب الأحداث بطريقة متسلسلة إذ يستخدم الرائي لتحقيق هذا الغرض الكثير من الرواة الذين يتحدثون بشكل متواصل ودائم بصيغة ضمير المتكلم وبالتالي نراهم وقد وضعوا أنفسهم أمام حالة من وجهات النظر المتعددة والمختلفة ـ في آن ـ لخدمة الخط العام المتعلق في موضوع السرد الروائي ، لكن كل هذه الأمور تقال بمنتهى المهارة الروائية للكاتب خصوصاً في موضوعتي التأكيد و النفي في وقت واحد ، وبالأضافة إلى هؤلاء الرواة يبرز فجأة من بين ثنايا السرد راو يتحدث بصيغة ضمير الغائب حتى يكاد لا يشعر به القارئ بحيث ترتبط الأحداث بعضها ببعض في عالم تملؤه الغرائبية والدهشة والأحداث التي يبقى بها الزمن مغلقاً ومتحركاً ـ في ذات الوقت ـ بصورة دائرية تجعل منا أن نصل أثناء القراءة إلى الاعتقاد الجازم من أن هذه الرواية ليست رواية فحسب بل هي بمثابة دراسة معمقة لتوثيق الظلم عبر مراحل زمنية آنية تتعلق بالحدث الروائي أولاً و مستقبلية يتوقع حدوثها الكاتب غابريل غارسيا ماركيز ثانياً من خلال وعيه و قراءته للاحداث في منطقة الكاريبي .
تعود بداية الأحداث في الرواية إلى الطفولة الأولى للبطريرك ـ وهو الأسم الوحيد الذي يشار إليه في الرواية ـ اثناء فترة العهد الأخير لنظام النيابة الملكية لأسرة ( غودوس ) ، وتندلع بعد حروب الاستقلال حرب أهلية بين الليبراليين من جهة والمحافظين من جهة أخرى لمدة زمنية تتراوح تقريباً احدى عشرة سنة ينتزع من خلالها السلطة ما يقارب أربعة عشر جنرالاً الواحد تلو الآخر ويكون في آخر هذه السلسلة من الجنرالات جنرال مستبد بصورة تفوق المعقول ويمتلك نزعة قوية إلى حد ما ، تجرأ مرة على ان يرفض شروط ومطالب الأنكليز ، لكنه في نهاية الأمر يقدم على الأنتحار مع كافة أفراد أسرته على أثر حركة مسلحة كان قام بها ضد البطريرك بايعاز وتوجيه من الأنكليز أنفسهم وهكذا تمت العملية إلى ان تم ـ بواسطة الأنكليز و القوات المسلحة ـ تعين وتنصيب البطريرك وهو الشخصية الأمية والدموية والمستبدة والمنعدمة الضمير قائداً ورئيساً لهذه الجمهورية .
حين وصل كان الوضع الاقتصادي ، السياسي ، والحياتي العام يسير من سئ إلى اسوأ تعرض إلى بعض المتاعب ومع هذا تم تخليصه وإنقاذه بفضل جهود ومساعدة الأمريكيين الشماليين شريطة منحهم الحق الدائم في مسألة استثمار الثروات الكثيرة والمدفونة ولذلك نرى ان البطريرك قد بقي على سدة الحكم و سيطول بقائه بفضل تمتعه بحاسة شم تسمح له بان يحس الخطر في الوقت المناسب والمكان المفترض ولذلك نرى ـ أيضاً ـ ان ردة فعله تاتي بقسوة غير منتظرة وحجته و دليله لهذه المسألة هو منطقه الذي لا يقبل الجدل في الدفاع عن سلطته و حكمه و حياته وصولاً إلى حاشيته ـ هذه الفقرة تحديداً تذكرني بحديث لصدام حسين يقول فيه ما معناه .. أنني أستطيع أن أعرف ما يضمره خصمي لي أو أي شخص آخر لمجرد النظر في عينيه ، هذا هو منطق الطغاة ـ ، ثم تتكرر المناورة / المحاولة بشكل دوري كلما خرج منتصراً من الكمائن المنصوبة و محاولات الأغتيال العديدة التي تعرض لها من كل حدب و صوب و حين يحاول بطريقته المخاتلة و المخادعة أن يذيع بياناً يتحدث فيه عن نواياه الطيبة القادمة او يعلن تصريحاً ما يمنح فيه العفو حتى تنطلق من جديد أساليب القمع بصورة أكثر وحشية مما كانت عليه سابقاً و هناك مثالاً من ضمن الأحداث التي تجري في الرواية ، تلك المتمثلة بعملية اليانصيب التي تحاك بهدف ازاحته و إسقاطه .. فلكي يبقى رقم البطريرك فائزاً / رابحاً على الدوام كان يعمل عند كل سحب للبطاقات احتجاز طفلين و يلقى بهما في غياهب سجونه وبمثل هذه الطريقة أختفى ما يقارب الألف طفل وهنا يبدأ الأهالي بالاحتجاج مطالبين الرأي العام بتفسيرات لما يحدث وباطلاق سراح هؤلاء الصغار وعندما يعلم البطريرك بما يجري يعمد إلى تفجير المركب الذي حشر فيه هذا العدد المأهول من الأطفال و هو في عرض البحر و على أثر هذه القضية يكتشف فجأة أن شخصية ( رودريغو دو اغيلار ) هذا الشخص الذي منحه و وضع فيه ثقته هو العقل المدبر الأول لكل هذه المؤامرة المحاكة ضده فيقدم إلى وضعه في الفرن لشيه و تقديمه لاحقاً على طبق من الفضة إلى كل الجنرالات المشتركين و المتورطين الذي يجدون أنفسهم مضطرين لأكله خلال أحدى حفلات العشاء السرية الضخمة التي كان يقيمها البطريرك بين فترة و أخرى .
ثمة آلية غريبة تحصل داخل الرواية تميز عهد هذا البطريرك تتمثل بعملية تقسيم و توزيع الثروات بوصفها كما يعتقد ملكية خاصة لهم ـ أعني الحاشية و من معهم خصوصاً أمه (بندئيون الفارادو) التي أعطاها بمرسوم ملكي صفة قديسة الوطن ـ على الرغم أنهم في لحظة من اللحظات الكثيرة كانوا يتمنون التخلص منه بشتى الطرق التي قد تتاح لهم بسبب عناده و تخلفه الذي يهدد ـ كما يتصورون ـ استقرار الحكومة الذي قد يجعل حدوث انفجار ما ممكناً نتيجة حالة الاستياء العامة التي يشعر بها المدنيين و العسكريين على حد سواء أو لنقل بصورة متفاوتة ، و بعد مرور أكثر من قرن من الحرائق و القتل و التنكيل و التسلط يستنفد الوطن كل ثرواته و قواه و لم يبق سوى البحر الذي يجد البطريرك نفسه مضطراً للتنازل عنه للامريكيين الشماليين الذي يهددونه دائماً بعملية انزال جديد ( للمارينز ) و حين يموت البطريرك في نهاية الامر هرماً و وحيداً يبقى الخوف من رؤيته منبعثاً من جديد مصدر قلق و توتر ، ـ من جهة عودته مجدداً و عدم تصديق رحيله من جهة مقابلة ـ ، و حين يصدر الاعلان التالي : ( نعلن للملأ الخبر السار بان زمن الأبدية قد بلغ نهايته ) حتى يتفجر الفرح .
مما تقدم من الحديث نستطيع أن نقول مرة أخرى بأن شخصية الدكتاتور في رواية خريف البطريرك هو النتاج الحتمي / البديهي للجهل و العنف و القسوة التي يمكن أن يبلغها رجل معتوه عندما تضعه الظروف على رأس السلطة و الواقع أن البطريرك هو ضحية أخرى يمكن أن تضاف إلى الضحايا التي يحكم عليها هو نفسه بالموت فكل هؤلاء الذين معه تجرفهم سيرورة واحدة لا غير ، سيرورة الانحطاط التي تضع هذا البطريرك بالصدفة في السلطة ، أن هذه الرواية هي ترجمة دقيقة لحيثيات الواقع القمعي ، السلطوي و الأيديولوجي بغض النظر عن المكان أو الزمان ، الشئ الوحيد الذي يتغير هو أسماء الطغاة و عدد ضحاياهم الجدد .
ثمة أشارة لابد منها ... نقول أن الكثير الكثير من حكام العالم الثالث في الماضي و الحاضر و ربما المستقبل أيضاً هم أجزاء صغيرة أو كبيرة ـ حسب الموقع الذي تقف أقدامهم عليه ـ من خريف البطريرك .
عبدالكريم كاظم - العراق.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/