في تأصيل رؤية العمل الأهلي
ورقة مقدمة إلى مؤتمر منظم من قبل مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان
بعنوان " الحق في تكوين الجمعيات "
بقلم / محسن ابو رمضان
يمكن التأريخ للعمل الأهلي في فلسطين في المرحلة المعاصرة على ضوء تجربة العمل الطوعي في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، والتي ابتكرتها القوى السياسية المؤمنة بالخيار الجماهيري كوسيلة للتأطير ومن اجل مقاومة إجراءات الاحتلال الذي كان يتعامل مع الأراضي المحتلة كوسيلة للابتزاز المالي والاستثماري ولا يقوم بواجباته التي تمليها عليه وثيقة جنيف الرابعة والتي تلزم الاحتلال بتقديم الخدمات وتحمل المسئولية بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للشعب الذي يخضع لهذا الاحتلال .
التجارب السابقة والتي برزت في ثلاثينيات منذ القرن الماضي عن طريق تشكيل بعض الجمعيات والأطر النسوية والخيرية كانت إرهاصات غير مكتملة وكان يغلب عليها الطابع الخيري في إطار سيطرة النخب الارستقراطية عليها والتي كانت أي تلك الأطر تغلب عليها الطابع الخيري وليس التنموي أو التعبوي باستثناء بعض الأطر التي كانت تابعة أو ذات علاقة مع الأحزاب التقدمية والحقوقية في تلك الفترة مثل النقابات العمالية التي لعبت دوراً توعوياً إلى جانب المهمات الخاصة بالعمل المطلبي والنقابي .
تبنت الأطر الطوعية التي أخذت الطابع التخصصي بعد ذلك إبان الانتفاضة الأولى شعار التنمية من اجل الصمود والمقاومة ، فأصبحت هناك بعض الأطر العاملة بالمجال الصحي والزراعي والعمالي والشبابي والنسوي والثقافي ... إلخ ،وقد تزامن هذا الشعار مع الطابع الشعبي للانتفاضة التي كانت واضحة في أهدافها الوطنية والتحررية وبمضمونها الديمقراطي.
المنظمات الأهلية والسلطة الفلسطينية :-
لقد استطاعت المنظمات الأهلية إدراك طبيعة المرحة التي أتت على المجتمع الفلسطيني على ضوء اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية حيث اعتبرت ان هذه السلطة يمكن ان تشكل نواة للتحول باتجاه تحقيق الدولة ذات السيادة خاصة إذا أدركنا انه قد تشكلت هياكل ومؤسسات للسلطة من خلال المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية والقضائية ، حيث أدى هذا الإدراك إلى تبنى شعار التنمية من اجل الصمود والبناء وصيانة مضمون البناء ، حيث عملت العديد من المنظمات الأهلية على التأثير بالقوانين والتشريعات والسياسات العامة سواءً لصالح الفئات الاجتماعية المهمشة والضعيفة " مرأة ، شباب ، عمال ، مزارعين .. إلخ " أو لصالح مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وقد برز ذلك عبر رفض تشكيل محكمة امن الدولة وظاهرة الاعتقالات السياسية والمطالبة باعتماد تشريعات تضمن الحق بالرأي والتعبير والتجمع السلمي والصحافة الحرة والتعددية السياسية ،كما عملت المنظمات الأهلية على التعبئة والتأثير بالرأي العام باتجاه المطالبة بالإصلاح ومقاومة مظاهر الفساد وسوء استخدام السلطة على المستويات الإدارية والمالية باتجاه ضمان آليات من المسائلة والمحاسبة والحكم الصالح وعبر التأثير بالموازنة العامة وبخطط التنمية بحيث تستجيب للأولويات والاحتياجات وتبتعد عن الإنفاق الاستهلاكي لصالح تنفيذ المشاريع الإنتاجية والتنموية بدلاً من الاغاثية وعبر الضغط لتوفير موارد تساهم بالعملية التنموية أي باتجاه الصحة والتعليم والخدمات والقطاعات الزراعية والصناعية والإنتاجية ، وذلك بدلاً من النفقات الباهظة التي كانت تنفقها الموازنة العامة على بنود الرواتب والأجور والأمن والنفقات الاستهلاكية التي يستفيد منها شريحة اجتماعية ضيقة على حساب السواد الأعظم من المهمشين والفقراء .
المنظمات الأهلية والضغط والتأثير :-
رغم محاولات السلطة استيعاب العمل الأهلي أو تحجيمه ، فقد استطاعت المنظمات الأهلية من إدارة الخلاف بصورة سلمية وديمقراطية عن طريق اعتماد قانون الجمعيات الأهلية رقم 1/2000 والذي وضع حد لمحاولات التدخل في استقلالية العمل الأهلي على طريق استيعابه ، حيث عمل القانون على ضمان استقلالية العمل الأهلي كما أعطى الحق للسلطة التنفيذية ممثلة بوزارة الداخلية للرقابة ، ويذكر ان السلطة قد حاولت تشكيل اطر موازنة للمنظمات الأهلية ذات الوجهة الديمقراطية المستقلة والتي كانت تدافع عن حق الجمعيات الأهلية بالعمل الديمقراطي والمستقل، وذلك في إطار السعي لتحجيم العمل الأهلي وإضعافه وتشكيل اطر مرتبطة بالحكم والذي أصبح يعرف بظاهرة " GNGO " .
ميزت المنظمات الأهلية بين الإصلاح والحكم الرشيد الذي يجب ان يستند إلى مطالب المجتمع المدني وبين الإصلاح المطلوب من قبل اللجنة الرباعية الدولية والتي وضعت هذا الشرط على الرئيس الراحل ياسر عرفات بهدف تقليص صلاحياته على ضوء موقفه الرافض لمقترحات كامب ديفيد عام 2000، حيث دفعت الرباعية إلى استحداث منصب رئيس وزراء يتم اعتماده بالقانون الأساسي ويأخذ صلاحيات محددة من رئيس السلطة ، كما تم إدخال إصلاحات في النظام المالي عن طريق توحيد الإيرادات والمصروفات وبهدف تقليص مصادر التمويل والأمن من قبل الرئيس عرفات على طريق إضعافه ثم تجاوزه .
وعندما قام المجلس التشريعي باعتماد كل من القانون الأساسي المعدل ، وكذلك قانون استقلال القضاء عام 2003 نتيجة لمطالب اللجنة الرباعية الدولية أدركت المنظمات الأهلية الطابع المنكشف والاعتمادي للسلطة الفلسطينية التي كانت خلال السنوات السابقة لهذا التاريخ تحاول أي المنظمات الأهلية الضغط والتأثير باتجاه اعتماد كل من هذين القانونين كمرتكزين رئيسيين للنظام الإداري والقانوني الفلسطيني على طريق المأسسة وتجاوز الفرادنية والسيطرة الأحادية في إدارة شؤون السلطة على طريق تحقيق الحكم الرشيد الذي يجب ان يخضع إلى منظومة من المؤسسات ذات الوظائف والصلاحيات الواضحة .
كما قاومت المنظمات الأهلية ضغوطات الرباعية الدولية عام 2003 التي أدت إلى استجابة السلطة باتجاه مصادرة أموال حوالي 23 جمعية تابعة لحركة حماس بحجة مقاومة " الإرهاب " وتحركت على المستويات الإعلامية والجماهيرية والقضائية باتجاه إعادة افتتاح تلك الجمعيات المغلقة وتحرير الحجز على أموالها بالبنوك وقد نجحت في حملتها هذه .
بالوقت الذي كانت تشدد به المنظمات الأهلية وخاصة ذات الوجهة الديمقراطية على رفض التمويل المشروط كما برزت عبر وثيقة الإرهاب التي اشترطتها وكالة التنمية الأمريكية "USIAD " لتمويل اية منظمة اهلية ، فإنها أكدت أن أي تمويل يجب ان يكون غير مشروطاً ويستجيب إلى الأولويات والاحتياجات التنموية الفلسطينية التي تحددها المنظمات الأهلية من خلال العلاقة مع الفئات الاجتماعية المهمشة ،كما أكدت العديد من الأقلام على أهمية التقليل من الاعتماد على التمويل الأجنبي لصالح التمويل العربي والفلسطيني وكذلك لصالح التمويل التضامني .
إلا أنه لم يجر تحقيق نجاحات كبيرة بهذا المجال بسبب عدم استجابة كافة المنظمات الأهلية لمبدأ مقاطعة التمويل الأمريكي المشروط الذي يتنافي مع قانون الجمعيات رقم 1/2000، وبسبب عدم وحدة موقف كلمة المنظمات الأهلية باتجاه الضغط على الممولين الأجانب للاستجابة إلى الاحتياجات التنموية الفلسطينية والتي كانت تركز على الأجندة الحقوقية والثقافية أكثر من القطاعات الإنتاجية التي تساهم بالتصدي لظاهرتي الفقر والبطالة بالمجتمع الفلسطيني ، ويعود السبب في ذلك إلى ظاهرة التنافس الريعي واعتماد الأجندة الفردية والمصلحية الخاصة للمنظمات الأهلية بدلاً من الالتفاف حول الموقف الجمعي العام .
حسب التقرير الصادر عن مركز تطوير المؤسسات الأهلية NDC فقد وصل المنظمات الأهلية منذ عام 1999- 2008 حوالي 358 مليون $ بلغت حصة الحقوق منها 30% فيما حصة الزراعية التي تشمل البيئة والمياه حوالي 7% - باقي المبلغ يوزع على الشؤون الاجتماعية والصحة والتعليم ، وقد زادت مؤخراً حصة المشاريع الاغاثية والخيرية من مساعدات المانحين على حساب القطاعات الانتاجية والحقوقية في نفس الوقت الأمر الذي يعكس توجه الدول المانحة الواضح باتجاه اعتماد البرامج الاغاثية والخدمية في قطاع غزة والتعامل معه كحالة انسانية وليست تنموية ، خاصة بعد الحصار الظالم الذي فرض بصورة مشددة على القطاع في منتصف 2007 والذي تعمق بعد العدوان الاسرائيلي في نهاية 2008 بداية 2009 والذي أدى إلى استشهاد حوالي 1500 شهيد وجرح حوالي 5000 جريح إضافة إلى تشرد عشرات العائلات بالعراء وتدمير أكثر من 30 الف مبنى سواءً جزئياً أو كلياً .
المنظمات الأهلية والحصار :-
رفضت المنظمات الأهلية الحصار واعتبرته ظالماً وغير شرعياً أو أخلاقيا ويتنافى مع القانون الدولي والإنساني ويشكل عقاباً جماعياً على شعبنا وخاصة بسبب خياره الديمقراطي ونتائج الانتخابات التي شهد لها العالم والمراقبين الدوليين والمحليين بالنزاهة والشفافية أي الانتخابات النيابية العامة التي جرت في يناير / 2006.
اضطرت المنظمات الأهلية وخاصة أمام حالة الحصار حيث قامت إسرائيل بإلغاء الكود الجمركي واعتبار قطاع غزة كياناً معادياً وتحديد 30 سلعة للدخول إلى القطاع من أصل 9000 كانت تصل إليه عن طريق المعابر الإسرائيلية ، إلى العمل الاغاثي والخدمي ، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة بصورة غير مسبوقة ، وأصبح 80% من المواطنين يعتمدوا على المساعدات الاغاثية التي تأتي بواسطة الاونروا وغيرها من المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية ووصل معدل الفقر إلى 70% من المواطنين ونسبة البطالة إلى 45 % من حجم القوى العاملة أما نسبة المندرجين تحت خط الفقر الشديد " المدقع " فقد وصلت إلى 40% من المواطنين .
لقد ترسخ الطابع الاغاثي في قطاع غزة على ضوء توجه المنظمات الدولية غير الحكومية للعمل وبصورة كثيفة في القطاع بحيث وصل عددهم إلى أكثر من 85 منظمة دولية غير حكومة وذلك على خلفية مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد في 2/3/2009 للدول المانحة الذي حدد مبلغ 4.5 مليار $ لإعادة اعمار قطاع غزة .
لقد أدى توجه معظم المنظمات الدولية غير الحكومية للأنشطة الاغاثية بدلاً من التنموية ، وقيامها بالعمل المباشر مع الفئات الاجتماعية المهمشة في تجاوز واضح لخبرة وتجربة المنظمات الأهلية المحلية إلى توجس وقلق بين أوساط العاملين بالعمل الأهلي ، حيث ان تلك التوجهات بالوقت الذي سترسخ به الطابع الخدمي والاتكالي والاغاثي للمجتمع بالقطاع فإنها ستساهم في إضعاف وتقويض تجربة طويلة وقيمة ومتراكمة من عمل المنظمات الأهلية المحلية بالمجالات المختلفة لصالح أجندة المنظمات الدولية غير الحكومية ومن خلفها الأوساط الدولية النافذة التي تريد ان تحول قطاع غزة إلى حالة إنسانية بدلاً من طابعها الإنتاجي والتنموي والحقوقي .
ورغم تفاعل المنظمات الأهلية مع اللجان والقطاعات التي شكلتها سواء المنظمات غير الحكومية أو تلك التابعة للأمم المتحدة تحت عنوان " الانعاش المبكر " ومحاولاتها الجادة للتأثير بأجندة تلك القطاعات إلا أن توجهات المنظمات الدولية هي التي استمرت بالسيطرة بسبب تحكمهم بالموارد والأموال وإجماعهم على الأجندة الاغاثية ورغبتها المشتركة في تهميش المنظمات الأهلية المحلية وإبقاء دورها رمزياً غير مؤثر في تلك التشكيلات واللجان والقطاعات .
المنظمات الأهلية والانقسام : -
أدانت المنظمات الأهلية ذات التوجه الديمقراطي منذ اللحظات الأولى ظاهرة الانقسام السياسي والجغرافي واعتبرته انتكاسة على الصعيد الوطني عبر تقويض فكرة الدولة المستقلة و الضرر الذي سيلحقه هذا الانقسام على وحدة الهوية الوطنية لشعبنا وكذلك على الصعيد الديمقراطي عبر استخدامه أدوات ووسائل غير ديمقراطية في حل الخلافات والمشكلات الداخلية .
وفي إطار مقاومة تداعيات الانقسام على الحريات العامة فقد ، رفضت المنظمات الأهلية الحالة الناتجة والتي اتسمت بآليات من الفعل ورد الفعل بين حكومتي غزة ورام الله تحت عنوان الصراع على السلطة والاستقطاب والصراع العنيف الذي اخذ طابعها دموياً وأثر سلباً على وحدة النسيج الاجتماعي فأدانت ظاهرة الاعتقالات السياسية وإغلاق الإذاعات المحلية ومنع توزيع الصحف والاعتداءات على الجمعيات الأهلية والنقابية في كل من القطاع والضفة واعتبرت ذلك تقويضاً للمكتسبات الديمقراطية وعودة لآليات تستند إلى توازنات القوى الميدانية بدلاً من آليات المحاسبة والمسائلة والعمل المؤسساتي والذي تعطل بسبب تجميد عمل المجلس التشريعي ومقاطعة الكتل الانتخابية له باستثناء كتلة الإصلاح والتغيير الأمر الذي أدى إلى تسييس عمل المجلس التشريعي وكذلك تسييس القضاء وغياب آليات الرقابة الداخلية الجمعية عبر الوزارات أو جهات الدولة من خلال هيئة الرقابة العامة، كما ان الاستمرار في اصدار القوانين عبر قرارات رئاسية يعكس تجاوز المؤسسة والتحول إلى آليات فرادينة بعيداً عن الاطر المؤسسية المناسبة .
لقد تابعت المنظمات الأهلية ظاهرة التعديات والانتهاكات التي تتعرض لها ، حيث استطاعت وعبر آليات الحشد والضغط والتأثير من إعادة افتتاح معظم المنظمات الأهلية التي كانت بأغلبها تعود إلى حركة فتح وإعادة محتوياتها لأصحابها ، وقد قامت المنظمات الأهلية والحقوقية والشخصيات الاعتبارية ،بتشكيل لجنة للاتصال من صناع القرار السياسي في حكومة غزة وقد تم بقرار وزاري إلغاء إغلاق تلك الجمعيات ، هذا الإغلاق الذي تم على خلفية حادث الشاطئ الإجرامي في صيف /2008 ، كما قامت المنظمات الأهلية بإثارة قضية إغلاق جمعيات أهلية وصل عددها إلى 103 جمعيات تابعة لحركة حماس إلى المحكمة العليا عبر استصدار قرار يفيد بإلغاء قرار الإغلاق.
بمعنى ان المنظمات الأهلية ذات الوجهة الديمقراطية تحركت على المستويات القانونية عبر آليات الضغط والتأثير والاتصال والتفاوض مع صناع القرار ، ورغم إقرارها بعدم شرعية حالة الانقسام وخاصة بعد انتهاء المدة الزمنية والقانونية لكل من الرئاسة والمجلس التشريعي ، إلا أنها أكدت بأنه يجب العودة إلى قانون ينظم العلاقة ويمنع عملية الاستفراد والاستئثار ، حيث ان قانون الجمعيات الأهلية رقم 1/2000 ، كان القاعدة التي انطلقت من خلالها المنظمات الأهلية والحقوقية للعمل من اجل منع الانتهاكات والتعديات من جهة ومن اجل حماية وجود واستمرارية عمل المنظمات الأهلية من جهة أخرى .
إن آليات الضغط والتأثير والاتصال والتفاوض استمرت أيضا في مواجهة قرار وزير الداخلية في غزة والذي حمل رقم 48/2010 والخاص بالموظفين المستنكفين، حيث حرم القرار موظفين السلطة المندرجين على كادر حكومة رام الله من العضوية سواءً بالجمعية العامة أو مجلس إدارة الجمعيات الأهلية ، الأمر الذي انضوى على تمييز سياسي كما انه يقوض قيمة أساسية تعتبر مرتكزاً أساسيا من مرتكزات المجتمع المدني وهي قيمة العمل الطوعي ، حيث لا ضير من منع العمل المأجور ولكن ليس التطوعي والذي يعتبر جزءً من الرأسمال الاجتماعي ومن منهجية التنمية البشرية وعبر تعظيم مشاركة الإنسان بالجهد والخير العام .
وبالوقت الذي تعرضت به المنظمات الأهلية للعديد من المضايقات كان أبرزها الرقابة الشديدة والتي احياناً لا تكون بهدف التطوير والنصيحة و الإرشاد بقدر ما تكون من اجل إيجاد فجوات وثغرات يمكن النفاذ من خلالها وعبر إيجاد ذرائع ومبررات للسيطرة عليها ، خاصة إذا كانت تملك مبناً معيناً ، حيث ان الرقابة مطلوبة وهي تعتبر من آليات ضمان الإدارة الرشيدة في بينة المنظمات الأهلية ولكنها يجب ان تكون باتجاه الإصلاح والتطوير وليس باتجاه السيطرة والاستحواذ ، كما برزت ظاهرة الاستدعاءات وتوفير بعض التهم الجاهزة ، الأمر الذي أدى إلى خلق أجواء غير مشجعة في العمل الأهلي ، كل ذلك بسبب الاستقطاب والتجاذب السياسي والانقسام ، حيث لم نلمس ان المنظمات الأهلية التابعة للحزب الحاكم سواءً في غزة أوالضفة انها قد تعرضت لأشكال من الانتهاكات وذلك لولايتها للحزب الحاكم الأمر الذي ضرب مفهوم المواطنة واثر سلباً على القانون الأساسي الذي يستند إلى المساواة وعدم التمييز وإلى الحق في تشكل الجمعيات والأحزاب والنقابات ، كحق مكفول بالقانون .
في رؤية العمل الأهلي :-
ما زالت المنظمات الأهلية تؤمن بالمساهمة في تحقيق المجتمع المدني الديمقراطي ، ولكن هذا المجتمع بحاجة إلى مقومات محددة أهمها وحدة المؤسسة الفلسطينية وذلك عبر إعادة صياغة تلك المؤسسة على أسس انتخابية وديمقراطية وموحدة كما يتطلب ذلك تحقيق السيادة الوطنية بحيث تضمن حقوق شعبنا بالاستقلال وتقرير المصير والعودة .
إن تجربة بناء المؤسسات دون السيادة لا تساهم في تحقيق أهداف التحرر ولا تعمل على إنشاء مجتمع مدني الذي يشترط وجود الدولة ذات السيادة ، كما يشترط ان يحافظ على الطابع الديمقراطي والمستقل لتلك المنظمات .
وعليه فإن مهمة إنهاء الانقسام والعمل على إعادة بناء المؤسسة الإدارية والقانونية الفلسطينية يعتبر من أولويات ومهمات عمل المنظمات الأهلية وذلك بالتعاون والشراكة مع القوى السياسية ذات الوجهة الديمقراطية المؤمنة بهذا الخيار ، خاصة إذا أدركنا أن التعديات التي تتعرض لها المنظمات الأهلية وقوى المجتمع المدني لا تسند إلى مخالفات قانونية فقط ، بل يعود سببها الرئيس إلى حالة الانقسام والتجاذب والاستقطاب ، حيث هناك علاقة جدلية بين إنهاء الانقسام وإعادة بناء المؤسسة الوطنية من جهة وبين تبنى أسس ومرتكزات سيادة القانون التي تعمل في إطارها منظمات المجتمع المدني .
إن المهمة المذكورة أعلاه تفترض إعادة هيكلة وبناء المنظمات الأهلية لتخرج من طابعها التنموي وانشداها إلى المهنية على حساب أصول العمل الأهلي المرتكز إلى قيم الطوعية والمشاركة، كما من الضروري التحرر من الخطاب الليبرالي لصالح الخطاب الوطني والديمقراطي ، حيث ان الخطاب التحرري والمبنى على الحقوق الفردية ترك قطاعات اجتماعية واسعة لصالح التيارات السياسية الأخرى ، كما ابرز أهمية الربط من الحقوق الفردية وبين منهجية التعبئة الشعبية التي تتبناها الحركات الاجتماعية المتخصصة من اجل القيام بآليات من النضالات المطلبية التي تساهم بالدفاع عن الفئات الاجتماعية المهمشة والمستثناه .
لقد بات ملحاً إعادة التواصل مع مطالب القطاعات الشعبية المتضررة من حالة الانقسام ومظاهره السلبية القائمة على الفئوية والاستئثار والهيمنة وذلك عبر خلق حراك مدني وديمقراطي ومطلبي يساهم في إنهاء الانقسام وإعادة بناء المؤسسة الفلسطينية على أسس سيادة القانون ووفق مبادئ الحكم الرشيد .
إن مهمة وقف التدهور والمساهمة في الوحدة والبناء تحتم على المنظمات الأهلية التعاون مع العديد من القوى السياسية والاجتماعية من مثقفين وإعلاميين وغيرهم باتجاه توسيع دائرة القوى ذات المصلحة بالحفاظ على المكتسبات والحقوق الديمقراطية للمواطنين .
إن تلك الائتلافات عبر الحملات الرامية إلى إنهاء الانقسام وحماية الحريات العامة يجب ان تستمر لتصبح قوة ضاغطة على صناع القرار للاستجابة إلى رأي الأغلبية الواسعة المتضررة من حالة الاستقطاب والانقسام ، خاصة إذا أدركنا ان احد أسباب استمرارية الانقسام يكمن في ضعف قوة المجتمع المدني باتجاه المطالبة بانهاؤه والعمل على استعادة الوحدة وفي نفس الوقت صيانة الحياة الديمقراطية بالمجتمع .
إن تلك الحملات لا تعنى الاندماج مع رؤية القوى السياسية ، فالأخيرة تطمح إلى السلطة والمشاركة بها وهذا حقها، اما المنظمات الأهلية كجزء من نسيج المجتمع المدني فهي تريد التأثير بالحيز الاجتماعي أو بالرأي العام ليصبح قادر على الضغط على صناع القرار باتجاه احترام قيم الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وبما يساهم في ضمان الأمن الإنساني والاجتماعي بالمجتمع .
وعليه فالائتلاف يتم في قواسم مشتركة مبنية على صيانة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في إطار مؤسسة سياسية وإدارية موحدة يجمع عليها شعبنا وبما يساهم في تعزيز وحدة النسيج الاجتماعي وتجاوز كافة النتوءات والتشوهات التي اعترت جسده جراء حالة الاحتقان والاقتتال والانقسام.
إننا بحاجة ايضاً إلى تعميق عملية التنسيق بين القطاعات العاملة بها المنظمات الأهلية المحلية بهدف زيادة العلاقة مع الفئات الاجتماعية المهمشة ، ومن اجل بلورة رؤية وخطط ذات طابع مهني قادر على التأثير على أجندة المانحين وعلى السياسات المحلية المصاغة من قبل الوزارات القائمة .
إن ضعف التنسيق سيجعل المنظمات الأهلية قي حالة الانكشاف وتبعية لأجندة المانحين خاصة في ظل غياب الرؤى وزيادة النزعة الاستهلاكية والنفعية ،والمنطق الريعي الفردي لدرجة ان العديد من المنظمات الأهلية أصبحت تتجاوز أهدافها إذا تلقت تمويلاً سخياً ،الأمر الذي يشير بأولوية الانشداد إلى التمويل بدلاً من الهدف بما يمثله شريحة غير مؤمنة بالعمل الأهلي وبما يعزز مفهوم الارتزاق الذي يرتكز له مفهوم العولمة بطابعها الليبرالي الجديد والاستهلاكي والنفعي .
إن ما تقدم يعنى تحويل العاملين بالمنظمات الأهلية إلى مناضلين اجتماعيين بدلاً من موظفين روتينيين ، ومن الملاحظ ان ظاهرة الموظف الروتيني قد تعززت مؤخراً بسبب الثقافة الزبائنية من جهة ،ونتيجة لتأثير أجندة المانحين ذات الطابع الاستهلاكي والتي تحاول تسويق قيمها عبر مفهوم" المهنية " على حساب قيمة الطوعية والمشاركة والانتماء .
لقد آن الأوان لإعادة ترسيخ مفاهيم العمل الأهلي في تركيبة وبنية وثقافة العاملين بالمنظمات الأهلية من اجل إعادة تأصيل هذا العمل الذي يتبنى مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والتنمية الإنسانية ذات الطابع الانعتاقي والتحرري وهو بالتالي يختلف عن فلسفة القطاع الخاص ذات الطابع الربحي ، أو فلسفة الوظيفة العمومية في نفس الوقت ،وذلك لكي يستطيع هذا العمل استعادة عافيته والتصدي للعديد من المهمات التي هو بحاجة إلى معالجتها .
كما أننا بحاجة إلى فتح حوار واسع وجدي مع كافة الفاعليات المؤثرة بالعمل الأهلي باتجاهاتها المختلفة " الإسلامية ، الوطنية ، الديمقراطية " ، وذلك من اجل الوصول إلى قواسم مشتركة تساهم في تجاوز اية سلبيات قائمة وتعزز الاستقلالية والمهنية وتدفع باتجاه احترام قيم التعددية الديمقراطية والحقوقية المبنية على فلسفة المواطنة وثقافة الاختلاف في إطار مجتمع مدني ديمقراطي ما زال يشكل طموحاً لمعظم العاملين في بنية المنظمات الأهلية .
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/