الصبر عليك هو المكتوب.. يا ولدي
حطت رحالها إزاء جدار أصم لترسل للسيارة من حولها رسالة صمتها
أتعجب حين أراها تزين الأرض حولها ببضاعة مزجاة، تستظل بما تيسر من شجر على حافة الرصيف، تطرد الذباب عن وجه صغيرها المتكوم تحت جناحها، ولا تدري كيف تعالج أنفاسه المتلاحقة فأنّى لها تحميه من دخان سيارات لا يمهلها لحظة، والربو عليه هو المكتوب.. رغم ذلك تسعى لتنمية تجارتها وتوسيع مواردها، فتبيع مناديل الورق والولاعات والبالونات والتعاليق والنعناع واللبان وبعض ألعاب الأطفال الصغيرة.. وهي إذ تجلس هنا لتبيع ما لا يحتاجه السواد الأعظم من الناس إنما تحاول جاهدة التأقلم مع واقع أمر وأصعب، فتسمعها تغدق من يشتري بأدعية لا حصر لها، لأنه – من وجهة نظرها – قد أحسن إليها واشترى ما لا يريد رأفة بحالها، أو ربما لتشتري علاجاً لصدر وليدها الذي يعلو ويهبط بحثاً عن أكسجين نقي في مستنفع الغبار الذي أجبر على الحياة فيه..
وعندما زهد المارة في تجارتها وبان كسادها، جلست والفقر بعينيها تفترش طريقاً مرصوف، تمد للعالم يدها بانكسار وتخفي الأخرى خلف خمار، ينساب على كتفيها مع أطنان من غبار الطريق وسنوات من شقاء السنين، ترابط في معقلها هذا منذ ملايين السنين الضوئية قبل أول خيط لشمس الصباح، ولا تراوح مكانها حتى تختفي الظلال وتبهت أبواق السيارات، على أمل أن تعود بقوت من تعول من أفواه طالما حُرمت القليل، الوحيد زوجها هو من يرى الفرق اللوني بوضوح بين كفها التي تصلى الشمس ويدها.
حطت رحالها إزاء جدار أصم دون غيره؛ لترسل للسيارة من حولها رسالة صمتها، لوحة فنية تماهت في جوانبها، وكأنها قطعة منها حرص الرسام على ترك مكانها شاغراً لحين قدومها.. حياتها لا تعدوا عن مربع ضيق تحاصره أسلاك الفقر والجوع والحرمان الشائكة، وتطاردها الهموم والمطالب اليومية بعناد، ولا يمل الصبّار الأخضر يبزغ في كل درب تسلكه ليعلّمها الصبرـ وتتقن معه فنون التأقلم مع صحراء حياتها القاحلة، جلست هذه المرة بجانب الجدار، وترى الرفاق حولها حائرون يتساءلون، لماذا لم تدق الجدران؟
مازالت تعيش على الكِفاف ولا تعلم متى يشرق الغد الذي دأبت تمني نفسها بقدومه..
ولأن رمضان شهر عمل متواصل وعطاء، فقد وهبت نفسها فيه لوردية أخرى مسائية، تنتظر المصلين على باب المسجد من بعد صلاة العشاء حتى انتهاء التراويح، يعطيها هذا ويشك في أمرها ذاك وآخرون، ويتجاهلها أكثرهم وهم مدبرون، بينما يسائل أحدهم نفسه وآخرين عنها في شك ويرمقها بنظرات ريبة مستديرة..
أين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف؟
هل ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً؟
أم تراهم سلكوا درباً آخر وما عادوا؟
ما الذي يجبرها لتحمل الهم والذل ومعه مئات الأسئلة والعيون المتوجسة؟
أي حياة كانت تعيش قبل هجرتها لعالم التسول؟
من الذين تعولهم وترعى شأنهم ليخرجوها في هذا الوقت بل من يعولها؟
ما هي حصيلة غلتها اليومية، بل ما احتمالات دراسة الجدوى لهذه الوردية الليلية؟
وغيرها الكثير من الحجارة التي تقذف بها في ركنها المظلم بصمت..
شريحة عظيمة ممن تعج بهن غزة أصبحن يعشن على قوت هذه المهنة، ولا عجب فالاحتلال والحصار وضيق الحال والبطالة وقلة الأعمال وانقسام الإخوان وتجاهل الخلان ومطالب الأيام وتقلبات الزمان.. يجعل الحرة تئن آلاف المرات ولا تصرخ، وتقول لفلذة كبدها إذ تمسح عرق جبينها ودموعه:
يا ولدي لا تحزن..
فالصبر عليك هو المكتوب..
يا ولدي..
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/