[color:159b=#000]
سامي مجدي - أيام قليلة وتهل علينا الذكرى الثانية لوفاة عاشق فلسطين الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش، الذي ترجل عن حصانه يوم السبت التاسع من أغسطس - اب -سنة 2008 بعد إجراءه لعملية القلب المفتوح دخل بعدها في غيبوية لعدة أيام في المركز الطبي بمدينة هيوستن، التابعة لولاية تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية عن عمر ناهز السابعة والستون عاماً.
يعد محمود درويش المولود يوم الثالث عشر من شهر مارس -اذار سنة 1941 وإن كانت بعض الأحاديث الصحفية التي أدلى بها درويش نفسه توحي بأنه ولد في سنة 1942 - حسب ما ورد في كتاب "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة" للناقد الراحل رجاء النقاش - في قرية البروة (المهجرة)وهي قرية فلسطينية تقع في الجليل قرب ساحل عكا، واحداً من أهم الشعراء الفلسطينيين و العرب الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن.
بدأ محمود درويش كتابة الشعر في سن مبكرة وأصدر ديوانه الشعري الأول "عصافير بلا أجنحة" سنة 1960 وهو عمره تسع عشر سنة وبعده بأربع سنوات أصدر ديوانه الثاني "أوراق الزيتون" الذي يعتبر بدايته الفنية الحقيقية في عالم الشعر وأحتوى الديوان على قصيدته الصارخة "بطاقة هوية" التي يعبر فيها بشدة عن ثوريته.. فيقول "سجل… أنا عربي/ سلبت كروم أجدادي وأرضا كنت افلحها/ أنا وجميع أولادي/ ولم تترك لنا ولكل أحفادي/ سوى هذي الصخور../فهل ستأخذها حكومتكم..كما قيلا/ إذن !!!!!/ سجل…/ برأس الصفحة الأولى/ أنا لا اكره الناس, ولا أسطو على احد/ ولكني… إذا ما جعت, آكل لحم مغتصبي/ حذار…حذار… من جوعي ومن غضبي.
دأب صاحب "في حضرة الغياب" طوال حياته على الانتقال من قمة شعرية إلى أخرى أعلى منها، دون كلل أو ملل.. محمود درويش الذي داعب بشعره قلوب الصغار والكبار، الشرق والغرب كان صوت الحرية والإنسانية وجسد بشعره المستقبل راسماً صورة شعرية بارعة الجمال افتتن بها الغرب والشرق حتى أصبح إيقونة الشعر العربي الحديث ورمز للقضية الفلسطينية على طول الأرض وعرضها.
كان "متنبي عصرنا" إنسانا جميلا وديعاً محباً للحياة والإنسانية يدعو للسلام العادل لكل بني الإنسان، يرى ما لا نراه، في الحياة والسياسة وحتى في الناس، ويعبر عن كل هذه الأمور بلغة سلسة سهلة الفهم وإن كانت تحمل معاني جمة، ينقل من خلالها صورة صادقة وواقعية لمعاناة الإنسان الفلسطيني.. يقول حنا أبو حنا أحد دارسي التراث العرب القديم عنه في سنة 1964 "محمود درويش فنان أنبته جذع زيتونتنا الخالدة منذ ثلاثة وعشرين عاماً... أورق وأثمر فأنشد للجذع الراسخ والأرض الملوعة والطير المهاجر.. يحتضن أشعاره ويدعو أسرابه إلى العودة".
عانى محمود درويش كثيراً من التناقض بين انتمائه وعائلته إلى أرض فلسطين وبين حرمانه من الجنسية في الوطن المغتصب واعتباره "لاجئاً" من جانب الاحتلال الإسرائيلي وقد جسد هذا في مشهد شعري بارع الجمال في قصيدة "جواز سفر" التي عبر فيها إلى الإنسانية كلها وليس لفلسطين أو للعرب فقط ، يقول درويش " يا سادتي! يا سادتي الأنبياء/ لا تسألوا الأشجار عن اسمها/ لا تسألوا الوديان عن أُمها/ من جبهتي ينشق سيف الضياء/ ومن يدي ينبع ماء النهر/ كل قلوب الناس... جنسيتي/ فلتسقطوا عني جواز السفر!.
ودرويش أو "شاعر الأرض المحتلة" أحد أبرز مطوري الشعر العربي الحديث ومدخلي الرمزية فيه فهو وإن كان تغنى في إشعاره بالأرض والطبيعة والمرأة فإنه كان يرمز بذلك كله إلى عشقه الأبدي "فلسطين" التي استحق الحياة من أجلها.. "على هذه الأرض ما يستحق الحياة/ على هذه الأرض سيدة الأرض/ أم البدايات/ أم النهايات/ كانت تسمى فلسطين/ صارت تسمى فلسطين/ سيدتي استحق لأنك سيدتي/ استحق الحياة".
مثلت فلسطين كل شيء في حياة درويش فرآها هي والحبيبة شيء واحد ويصل إحساسه بهما إلى درجة التوحد فما يلبث يتحدث عن الحبيبة حتى يجره الحديث عن فلسطين عشقه الأبدي ودائماً ما يمزج بينهما في صورة شعرية جميلة ويراهماً جسداً واحداً لا ينقسم ويتضح هذا جلياَ في قصيدته الشهيرة "عاشق من فلسطين" التي يقول فيها واصفاً حبيبته "فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الأحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت".
قاوم محمود درويش الموت من خلال شعره وقصائده وأغانيه وفنونه التي هزمت الموت وبقت بيننا حية رغم أن صاحبها غادرنا بجسده.. تحدث كثيراً عن الموت والرحيل وأنه ليس ملك نفسه وظهر في جدليته الرائعة بين المصير الفردي والوطني في ديوانه "جدارية محمود درويش"، التي حاور فيها الموت اثر أزمة صحية ألمت به، ربط محمود درويش مصيره الشخصي بما يدور حوله وإن كان الاتجاه الأكثر إلى الإمعان في محاورة أدبية شعرية رائعة للموت وتحديه انتصارا للحياة.
يقول درويش " وكأنني قد متُّ قبل الآن …/أعرف هذه الرؤيا، وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف/ ربما ما زلت حياً في مكانٍ ما، وأعرف ما أريد...سأصير يوماً ما أريد".
وظل درويش متمسكاً بالحياة مؤمناً أنه لم ينهي رسالته في الحياة بعد وبقي له حاجات وأحاديث لم يفرغ منها بعد وياناديه قائلاً " أيها الموت انتظرني خارج الأرض/ انتظرني في بلادك/ ريثما أنهي حديثاً عابراً مع من تبقى من حياتي/ قرب خيمتك/ انتظرني ريثما أنهي طرفة ابن العبد".
تمتع محمود درويش بحس شاعري خصب وعاطفة مرهفة عميقة وقلب كبير وله نظرة إنسانية لا تحمل ضغينة لأحد بل مليئة بالحب للآخرين.. وظل درويش طوال حياته مناضلاً كبيراً ومدافعاً عن القضية الفلسطينية وان كان يرى إمكانية التعايش والحياة المشتركة السعيدة بين العرب واليهود، وأن الحكم الإسرائيلي يأخذ بشعبه نحو الهاوية طالما ظل مستنكراً لحقوق الشعب الفلسطيني واعتدائه المستمر والمتكرر على الأرض العربية.
وصدر للشاعر الكبير عدد من الدواوين الشعرية والكتب النثرية بينها دواوين "مطر ناعم في خريف بعيد" و"يوميات جرح فلسطيني" و"حبيبتي تنهض من نومها"و"محاولة رقم 7" و"هي أغنية ... هي أغنية" و"لا تعتذر عما فعلت" و"عرائس" و"العصافير تموت في الجليل" و"تلك صوتها وهذا انتحار العاشق"، حصار لمدائح البحر" وشيء عن الوطن" و"كزهر اللوز أو ابعد" و"لماذا تركت الحصان وحيدا" و"احد عشر كوكبا" و"اثر الفراشة"، والنص الأدبي "في حضرة الغياب" ومجموعة من المقالات ذات العمق الأدبي "وداعا أيها الحرب وداعا أيها السلم".