' أبو محمد' دمره أبناؤه قبل أن يدمره الاحتلال
تقرير/تمشي كأن المدن تحكي أوجاعها ، وتشتكي من ظلم الجيران والأعداء ،
ترسم عن أهلها طرقا من ضباب فوقها مصابيح مطفأة ، وفي الجوار قصص نامت في
زوايا البيوت الكثيرة،فالحرب الأخيرة علي قطاع غزة دمرت ما دمرت وعاثت
بالأرض فسادا فلم تبقي ولا تذر إلا واتت عليه، فحصدت كل شيء ولكن يبقى
سؤال يطرح نفسه الحرب أيضا هل غيرت نفوس البشر مثلما غيرت معالم الأرض
وقلبتها رأسا على عقب؟؟.هذا ما سنراه في التقرير التالي...
'أبو
محمد' شيخ في منتصف العقد الثامن ,أب لثلاث أولاد وابنتين، توفيت زوجته
قبل خمس سنوات عاش وحيدا في أحياء مدينة غزة , تؤنس وحدته بعض الذكريات
التي عاشها مع زوجته و أولاده , ورغم كبر سنه استطاع أن يتدبر أموره
المعيشية،عن طريق مخصصات مالية يستلمها من دائرة الشئون التابعة للحكومة
وكذلك من وكاله الغوث،وأولاده الثلاثة يطمئنون عليه كل فترة وأخري، وان
بلغ اهتمامهم به يستضيفونه كزائر لا تستغرق زيارته سويعات قليلة،ليعود إلى
منزله من جديد محدثا جدران المنزل..
في
حرب غزة تغير الحال هرب 'أبو محمد' خوفا من القصف القريب من منزله نظرا
لقربه من المنطقة الحدودية إلي بيت احد أولاده خلال,ولكن بعد انتهاء الحرب
عاد وليته لم يعد وجد كل شيء مدمرا،فهدم بيته وهدمت معه كل الذكريات ,دارت
به الدنيا ولا يعلم إلى أين سيذهب ،فلا ابن حنون يستطيع تحمل والده ولا
كذلك زوجات أبناء تطيب خاطره بكلمة حنون..
يقول
في أول ليلة سمعتهم يتهامسون ويتخافتون بينهم من يأخذني عنده،فهذا يقول'
لا يوجد متسع لدي في المنزل،وأخر زوجتي لا تشعر براحتها بوجوده, شعرت بألم
وحرقة،فبت اقضي عند كل واحد من أبنائي أسبوع , ولم
تستثنى بناتي من القسمة، ورغم تلك القسمة كنت اشعر باني ثقيل من خلال
تصرفاتهم وأسلوبهم الجاف معي ،وقبل أسابيع من احتفال العالم بالذكري
الأولي لحرب غزة, سمعت احد أزواج بناتي وهو يصرخ على ابنتي بسببي معلنا
لها بصراحة انه لا يستطيع أن يتحملني لأكثر من يوم، فصغرت الدنيا في وجهي
وأصيب على أثرها بجلطة دماغية شلت بعض أجزاء جسمه ليصبح قعيدا يحتاج
لرعاية وعناية خاصة وزاد حمل أولاده ورفضت زوجاتهم العناية بوالدهم بوضعه الجديد فقرروا أن يتخلصوا منه...
احد
جيرانه يقول' أخذوه والقوا به علي طريق صلاح الدين وهو طريق يصل جنوب
القطاع بشماله ,تم الإلقاء به علي الطريق الذي يصل خان يونس بدير البلح
وكأنه قطعة خردة تم الاستغناء عنها لانتهاء صلاحيتها 'عذرا أبا محمد' علي
هذا التشبيه ' عندما رأته السيارات وهو يلقي به توقفت عنده وتجمهر حوله
بعض المارة كان ينظر لهم ولسان حاله يقوله ارحموا عزيز قوم ذل ,وبات الناس المتجمهرة تسأله عن عائلته فرفض أن ينطق باسم عائلته وكانت الدموع تملأ عينيه وجسده يرتعش من هول الفاجعة فلم يتوقع أن تكون هذه نهايته ملقي في الشارع وان يكون قد اخطأ بتربية أولاده .
'أبو رائد' من بين الذين تجمهروا 'علي أبو محمد' تعرف عليه فحملة بين ذراعية ونقله إلي السيارة التي كانت تقله وذهب به إلي بيته.
يحدثنا أبو رائد ' لم أكن أتوقع أن أجد أبو محمد ملقي هكذا في الشارع وهو لا يقوى على الحراك
,أبو محمد صديق والدي الذي توفي قبل سنتين وأنا أتذكره جيدا فقد كان يأتي
إلي بيتنا ويلعب معنا وقبل أن يذهب إلي بيته يعطينا بضعة شواكل حتى نشتري
به ,فعندما رأيته افتكرت والدي وتخيلت أن يوضع والدي بهذا الوضع فتألمت
عليه لذلك أخذته إلي بيتي ونظفته وألبسته ملابس جديدة غير التي كان يلبسها
وأطعمته ,وأخبرته أن يطلب ما يشاء وان يعتبر بيتي هو بيته وأخبرت زوجتي
وأولادي بان يعاملوه معاملة جدهم , حاولت أن اتصل في أولاده لكن أبو محمد
رفض أن أحادثهم ,جميع أولاد أبو محمد يعملون وهم بوضع جيد كما أنهم اخذوا
كل التعويضات التي صرفت له بسبب تدمير بيته من قبل جيش الاحتلال
الإسرائيلي '.
وأضاف
أبو رائد في اليوم التالي ذهبت إلي غرفة أبو محمد حتى أطعمة فوجدته قد
فارق الحياة حزنت عليه لدرجة أني شعرت بفقدان والدي للمرة الثانية كما أن
أولادي قد حزنوا كثيرا عليه .وتحيرت هل افتح له بيت عزاء أم اخبر أولاده
,ولكن في النهاية قررت أن اخبر أولاده أن يأخذوا عزاءه وكإحراج لهم من
تصرفهم الذي تصرفوه باتجاه والدهم ,فذهبت لهم لأخبرهم بوفاة والدهم
فوجدتهم قد فتحوا بيت عزاء لوالدهم واعتبروه انه ميت بعد أن القوا به في
الشارع , فأخبرتهم باني أخذت والدهم وانه قد توفي اليوم ,لم ينطقوا بأي
كلمة ,وطالبوا مني جثة والدهم حتى يدفنوها لكني رفضت وقمت بدفنه في خان
يونس بالقرب من والدي حتى اقرأ علية الفاتحة عند زيارة والدي '
قلم
كسيح وعبارات مخنوقة في الحناجر،تريد الهبوط إلى ارض تقدر الإنسان،ولا تجد
لها أجنحة،فهذا ما انتهت عليه قصة ' أبو محمد' فتفاصيلها تقشعر لها
الأبدان...
فهل
هذا ما وصل إليه أبناء قطاع غزة...أم أن الحرب الإسرائيلية والحصار
والظروف الاقتصادية أفقدتنا الإحساس بالأب والأم والأهل...أم إن الأبناء
تغيروا في هذا الزمان..فلا نجد معاني للإنسانية في قطاع غزة غير الفقر
والقهر ...فهذا ما يدندن به أهل غزة المحاصرة....