مياه النيل ليست منحة!
يُعدُّ نهر النِّيل أطول أنْهار العالم، والَّذي يمتدُّ من وسط إفريقيا إلى البحر المتوسِّط مرورًا بعدَّة دول.
وتنقسِم تلك الدول إلى قِسمين: دول المنبع؛ وتضمُّ: إثيوبيا وأوغندا ورواندا، وتنْزانيا وكينيا، والكنغو الدّيمقراطية، وإريتريا وبورندي.
ودول المصبّ الَّتي تضمُّ: مصر والسُّودان.
وهناك اتِّفاقيات دوليَّة تنظِّم المياه بين تِلْك الدول، والَّتي تمَّ إبْرامها في عهد الاحتِلال والَّتي أعْطى فيها لدولَتَي المصبّ - مصر والسودان - النَّصيب الأكبر من مياه النِّيل، وظلَّ الأمر على هذا الحال عقودًا طويلة إلى أن بدأتْ أطْماع إسرائيل في الظُّهور في إفريقيا.
الأيدي العاملة:
فجميعُنا يعلم العلاقة الوطيدة التي نشأتْ بين إسرائيل وإثيوبيا؛ وذلك نظرًا لأنَّ يهود الفلاشا - وجلّهم من إثيوبيا - يُعتبرون المورد الأوَّل للعمَّال من إفريقيا، والَّذين يتولَّون الوظائف الدنيا في المجتمع اليهودي، والَّذي يأبَى فيه يهود أوربَّا وأمريكا تولّي الوظائف الدُّنيا، وعليه؛ فإنَّ يهود الفلاشا هم قوام اليد العامِلة في إسرائيل، وهو الأمر الَّذي يجعل من إثيوبيا - وهي إحدى دول حوض النيل - مطمعًا لإقامة علاقات حميمة معها.
الاقتصاد:
من ناحيةٍ أُخرى، أقامتْ إسرائيل علاقات تِجارية وطيدة مع الدُّول التي تَمتلِك الماس، وهي ليبريا وساحل العاج، وغينيا وزائير، وسيراليون وإفريقيا الوسطى وتنْزانيا؛ وهي إحدى دول حوض النيل، والَّذي يستخدم بشكْلٍ أساسي في تَمويل المستوْطنات الإسرائيليَّة، ومن أمثلتها مستوطنة "تسوفين"، كما تشكِّل تجارة الماس جزءًا رئيسيًّا من التِّجارة الإسرائيليَّة؛ حيث أعلن موقع وزارة الخارجيَّة الإسرائيلي عن حجم صناعة الماس، والذي قُدِّر بنحو 13 ملْيار دولار في عام 2006 من حجْم الصَّادرات الإسرائيليَّة، ويعدُّ هذا رقمًا ضخمًا بالنسبة لدولة صغيرة مثل إسرائيل.
تجارة السلاح:
تُعَدُّ إفريقيا مرْتعًا خصبًا للصِّراعات والانقِلابات الدَّاخلية، بل والحروب بين الدول بعضها البعض، فنجِد الصّراعات بين شمال وجنوب السُّودان، وبين الصوماليين بعضهم البعض، وبين الصومال وإثيوبيا، وبين شمال وجنوب نيجيريا، وغيرها الكثير، ويشكِّل هذا سوقًا هامًّة لإسرائيل؛ إمَّا لتجربة أسلحتها المصنَّعة محليًّا، وإمَّا لتأجيج الصِّراعات لأسباب ومصالح تخصُّها، مثل السَّيطرة على الذَّهب أو الماس أو اليورانيوم، ويساعدها في ذلك حالة الفقْر والمجاعة التي تَعيشها إفريقيا، وأيضًا تفشّي الأمراض والجهل والرشوة، وكل هذه الأمور التي تمكنها من السَّيطرة بسهولة على تلك الدول لتحقيق ما تصْبو إليه من أطماع.
الأهداف الإستراتيجيَّة:
وتهدف إسرائيل من وراء ذلك ليْس فقط النَّاحية الاقتِصاديَّة، ولكن هناك ناحية إستراتيجيَّة هامَّة تعمل عليها إسرائيل، وتتلخَّص في:
♦ محاولة كسْر العزلة التي تَعيشها إسرائيل بعد الحروب الَّتي خاضتْها مع العرب، والأراضي الَّتي احتلَّتها، ومظاهر القمْع الَّتي تُمارسها ضدَّ الفلسطينيين كلَّ يوم، ناهيك عن احتِلالها للمقدَّسات الإسلاميَّة، ومحاولاتها الدَّؤوب لنشْر الفساد في المجتمعات العربيَّة، فكان لا بدَّ لها من قوى مجاورة تُقيم معها علاقات اقتِصاديَّة وإستراتيجيَّة، بعد أن رفض مُعظم العرب علاقاتِ التَّطبيع معها، فأرادت بذلك هدفَين؛ الأوَّل: وجود مساندة إقليميَّة تُساعدها إذا ما نشبتْ بينها وبين الدّول العربيَّة حروبًا في المستقْبل، ثانيًا: وجود قُوى اقتِصاديَّة إقليميَّة تدعم بناء المستوْطنات وتُعْطي لها شرعيَّة عالميَّة تُنسي بذلك العالَمَ الحقوقَ المسْلوبة للشَّعب الفلسطيني وحقه في استِرْداد الأرض.
♦ إقامة تحالُفات مع القوى الإقليميَّة غير العربيَّة، مثل: تركيا وإيران في آسيا، وإثيوبيا في منطقة القرْن الإفريقي، كما تقوم إسرائيل بتسْويق دولتها ثقافيًّا، عن طريق فتْح المكاتب الثَّقافيَّة في تلك الدول؛ لِتُؤَصِّلَ في عقول تلك الشُّعوب وجودَها المزْعوم، ولتضعَ بذلك نفسَها على خريطة العالم بعد أن كانتْ شتاتًا.
وهناك هدف آخَر قد تراءى في الأفُق في الفترة الماضية، ولم يُعِرْه العرب – للأسف - اهتمامًا؛ وهو تضْييق الخناق على الدول العربيَّة في كلّ مكان، فبعد أن أيْقنتْ أن لا وجود لها بين العرَب عن طريق التَّطبيع والعلاقات الاقتِصاديَّة والثَّقافيَّة، بدأت تُثير القلاقل بين العرَب بعْضهم البعض، فكثيرًا ما تخرج لنا الصُّحف الإسرائيليَّة يومًا بعد يوم بِخَبر عن دولة عربيَّة تعمل في الخفاء ضدَّ مصلحة دولةٍ عربيَّة أُخرى، حتَّى ينشأ بيْنهما الشّقاق، وتلوذ هي بالغنيمة كاملة، وعندما أرادت أن تسدّد ضربة قويَّة للعرَب نظرتْ إلى أي الدول الَّتي تساند قضايا الأمَّة وتقف معها، فوجدت في مصر مبتغاها، وبما أنَّ علاقة إسرائيل قويَّة بالدول الَّتي تشترك معها مصر بعلاقات إمَّا تجاريَّة أو إستراتيجيَّة أو طبيعيَّة، عملت على زعزعة هذه العلاقات وتقْويضها، فبدأتْ بالتَّعاون مع دول حوض النيل في بناء سدود عملاقة بزعْم توليد الكهرباء، وزراعة الأراضي غير المستصلحة، وهي بذلك لا تريد خيرًا لتلك الدّول ولكن لتمنع الماء عن مصر والسّودان، رغم وجود الاتّفاقات الدَّولية!
وقامت بإثارة المشاكل الدَّاخلية في السودان، تارةً عن طريق دعْم الحركة المتمرِّدة في دارفور، وتارة عن طريق دعْم الانفِصاليين في جنوب السودان، وقد تجلَّى هذا الأمر واضحًا فيما حدث مؤخَّرًا من مشاكل خاضتْها دول المنبع والمصب حول الحقوق التَّاريخيَّة لنهر النِّيل، وعن إعادة تقْسيم مياه النيل وإقامة اتِّفاقيَّات جديدة لا تُراعي ما كان موجودًا في السَّابق، وبتأييد من البنك الدَّولي الذي تُشرف عليه مخابرات عدَّة دول من أهمها أمريكا وإسرائيل.
وظنَّ العرَب أنَّ مصر والسودان قادران على التصدِّي لهذه المشكلة وحْدَهما، حتَّى خرجتْ عليْنا دول المنبع بالأمس باتِّفاق أحادي لا يضمُّ مصر والسودان، بأنَّهما سيسْتوليان على مياه النِّيل، وعلى مَن يتضرَّر أو يريد المياه أن يشترِيه تمامًا مثل البترول،
فهل تَجد مصر والسودان من العرَب تأييدًا أو عوْنًا يساعدُهُما على التَّصدِّي لهذا العدوان الجديد، الَّذي يعدُّ بمثابة اعتداءٍ جديد على الأمَّة كلِّها؟
مقالات ذات صلة
* الأبعاد السياسية لمشكلة المياه في حوض نهر النيل
* الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية "استراتيجية وتاريخ"
* الدَّور الصهيوني في إشعال أزمة المياه بالشرق الأوسط
* الآثار الاقتصادية لمشكلات المياه
* ثالوث: المياه، البيئة، الفقر
* نظرة جديدة لاستهلاك المياه
* إلى متى يستمر مسلسل هدر المياه؟!
* تخطيط المياه وإدارتها ضرورة!
* عرض كتاب: "أزمة المياه في المنطقة العربية: الحقائق والبدائل الممكنة"
* المياه حرب المستقبل!!
* إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا تطلق الطلقة الأولى في حرب المياه!
* التحديات الثلاثة لحقوق مصر في نهر النيل
* خيارات مصر في أزمة مياه النيل
* مياه النيل ليست منحة!
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/