لذلك أحببناك د. أسامه الفرا
لماذا لا تكتب عن أبي عمار في ذكرى رحيله؟ هكذا
جاءت رسالة الصديق وكأنه عاتب على التأخير، فهل نكتب عنه في ذكرى رحيله أم من
الواجب علينا أن ننحت أفعاله على قمم الجبال وأن نرسم عنفوانه على جدران أزقتنا
وأن نوزع من إيمانه بحتمية النصر على المرتجفين والمتقهقرين خلف الكلمات، ألا نجحف
بحقه إن أودعناه التاريخ بمفردات ومقالات؟ هل يمكن أن تسعفنا الكلمات في التقاط
صورة الثائر المنبعث من تحت ركام الهزيمة؟ وهل يمكن لها أن تسجل لنا ذبذبات صوت
المؤمن في محرابه بساحة الوغى؟ وأي كلمات تلك القادرة على التقاط خفقان قلب أمريء
تقبل شفتاه قدم جريح وتحنو يداه على رأس يتيم؟ أي ظلم يقع على الكاتب وهو يحاول أن
يلتقط موقفاً في بحر تتلاطم أمواجه حاملة مع كل قطرة منها قصة ورواية؟ كي أخفف حدة
النحيب المتفجر من الفقدان والحنين لما كان، أجدني مرغماً على الانطواء مع الذات
في ركن بعيد عن تزاحم الأحداث، لأعيد من الذاكرة قراءة مفردات قليلة تصارع مواقف
خالدة، كان ذلك عندما أقدم مستوطن على شاطئ بحر خان يونس بتوسيع المساحة التي يرتع
فيها تحت حماية جيش الاحتلال وما تغدقه عليه حكومتهم من عطايا، يومها انتقلنا إلى
المكان بصحبة كباش البلدية، وأخذ سائقه يزيل آثار العدوان الجديد للمستوطن، لم يكن
في تلك المستوطنة الملامسة لبحر خان يونس سوى ذلك المستوطن بعد أن قتل أخاه في
الانتفاضة الأولى، المهم ما أن بدأ السائق في عمله ضمن الجرأة التي تحلى بها دوماً
حتى بدأت آليات الاحتلال وفرقهم العسكرية في محاصرة المكان، وأخذ قائدهم يقذف
بتهديداته في كل حدب وصوب، ثم لم يلبث أن أعطى تعليماته لجنوده بإطلاق النار، في
تلك الأثناء واصل سائق الكباش عمله دون خوف أو وجل، تكالب جنود الاحتلال بعددهم
وعتادهم وعربدتهم، بدأ الليل يرخي عتمته في المكان، غادر من غادر من الأهل وبقينا
أفراداً في مواجهة كتيبة أو أكثر، وهدير الدبابات يجلجل المكان وعربدة الجنود لا
تتيح فرصة لالتقاط الأنفاس، في هذه الأثناء بدأ الخوف يتسرب إلينا وأخذ البعض
يتحدث عن طريقه ننزل بها عن الشجرة التي تسلقناها، في تلك اللحظة قطع رنين الهاتف
تيه التراجع والتقهقر الذي تملكنا، على الهاتف من قال لي " الرئيس يريد أن
يكلمك"، قبل أن أسبح في فضاء المحادثة الغير متوقعة، بدأ الصوت الثائر الواثق
من النصر يتدفق عبر الهاتف، تغلف عنفوان كلماته مسحة أبوية روضت الخوف وأطلقت عنان
التحدي، لم يكن بحاجة لأن أسرد له تفاصيل الموقف، كانت كلماته تنبئ بأنه يحياها
بتفاصيلها الدقيقة، لم يتحدث طويلاً كرر كلماته التي تحمل من السحر الشيء الكثير،
"هذا شعب الجبارين، يا أخوي أنا بكم بقاتل جيش بأكمله، ولا هم فاكرين
إيه"، أي شحنات تلك التي حملتها هذه الكلمات لتتغلغل فينا وتمنحنا قوة الصمود
والتحدي، وأي إنسان ذلك الذي يوازن بين قوة القائد وحنان الأب، غاب الصوت عن
الهاتف بعد أن اسكن فينا مناعة ضد الوهن والضعف الإنساني، شكلت يومها كلماته
وقوداً لنا مكنا من التواصل لأيام إلى أن عادت الأمور لما كانت عليه، ياسيدي لم
تكن بالنسبة لنا زعيماً تنتصب بقامتك شامخاً متميزاً عن الآخرين، ولست الثائر الذي
ينفض عن أمته غبار الهزيمة والإنكسار، ولست القائد المنغمس مع جنوده في كل خطوة من
خطواتهم، ولست المقاتل الذي لم يخلع بذته العسكرية ولم يلق بسلاحه في الحرب
والسلام، ولم تكن الأب الحاني على شعبه المداوي لجراحه، ولست ذلك الإنسان الذي
تتراجع البساطة من أمامه، ياسيدي لم نعرفك بواحدة من تلك بل كنت جميعها لذلك
أحببناك حتى الثمالة، أطفالنا شيوخنا شبابنا نسائنا لكل منهم حكايته معك، رحلت عنا
وبقيت فينا.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/