رأس الناقورة .. حكاية الجمال في بطن الاحتلال
تقرير سونا الديك : يقول الشاعر الراحل محمود درويش :' هناك ، عرفت من
آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك الى كراهية النصف الثاني من الطفولة '
انتهى كلام الراحل. وربما الخطوات الاولى هي الأجمل في بقعة جغرافية أشبه
ببلاد السحر ، خسرها الفلسطيني ، يوم أن دنسها الاحتلال وطرد أهل البلاد
من جذوة النار ومزاريب المطر ، وهجرت العصافير والزغاب الجبال ، لتنتظر
الزمن أن يعود .وترك العدو لجنده بذر الأرض بالسم و الحسرة .
يمر
الفلسطيني اليوم على رأس الناقورة او بوابة فلسطين الشمالية أو ما كانت
تسمى في التاريخ القديم 'السلالم للصور' وكأنها السهم السام الذي
يجتر الصدر ، و كثيرا ما يتمنى لو كان جده أو جد جده الذي عاش هذه القطعة
الساحرة من أرض ارتوت بعرق أسلافه ، وعششت في اشجارها وكهوفها حكايات شعبه
، وسبحت في بحرها مناديل العاشقين القدماء ، أن يكون محلهم .
زار
(أمد) رأس الناقورة ورصدت عيناه بقعة الجمال وأن كان الوقت ليلا ، ليخزن
في ذاكرته ، بيوتا وشوارعا وجبالا وبحرا تحرسه صخور عالية ، وتسمح لبطنها
أن تفتح ثغرة كبيرة ليمر المالح ومن يحمل من خلالها ، في مشهد جمالي يعجز
عنه شعراء القوم ، ويبقى الفلسطيني صاحب المكان ، رغم الاحتلال الجائر
ورغم القهر السائد ، فالراعي لماشيته فلسطيني وصاحب البيت فلسطيني والفلاح
والبنّاء وسائق التاكس والحلاق والمدرس والتاجر والمرأة في بيتها ، كلهم
فلسطينيون بالانتماء وأن حملوا هوية أعداءهم من أجل أن يحرسوا قبور
أجدادهم وأباءهم ، لربما يسلمون أحفادهم أو ما بعدهم مفاتيح الدار للذين
هاجروا وضربت قلوبهم نيران الغدر ، هنا الفلسطيني مازال يحلم بلم شمله مع
الذين هاجروا وتركوا البيت والشجرة والبيدر لحين ، وتدخلت يد الماسأة
لتطيل عمر غربته ، ومنهم من دفن في تراب الغرباء ، ومنهم من ينتظر في مخيم
بارد وبائس ، ويعلق صورة رأس الناقورة في صدر البيت ، ويخبيئ لعكا حنينه ،
كما يرسم في كراسة الدهر أشواقه لحيفا والناصرة .
سائد
الذي دل (أمد) على خفايا رأس الناقورة يقول :' مصطلح النكبة ، دلع أطلقها
على ما جرى لنا ،من لا يعرفون بلادنا ، هي لم تكن نكبة وحسب ، بل كانت
القاهرة لأرواحنا والساحقة لأحلامنا ، يوم خرج أباؤنا من هذه البلد ،
خرجوا الى التيه والمجهول وتركوا من خلفهم الجنة على الارض ، انظروا الى
هذه الأرض الخضراء الى الجبل العالي الى الصخرة الصامدة في البحر الى
السهل النائم بجوار الشاطيء هذه البلد ، بلادنا ، ولن نقول أننا نشعر
بجمالها كله وأننا نعيشه ، لطالما لنا أعمام او أخوال يعيشون في الاردن
او لبنان محرومون منها ، ولطالما نصحوا كل يوم على شجرة زرعوها ، تشتكي
غربتهم . وجاري ابو عمر الذي هجّرته رصاصة المحتل ويحلم اليوم بالعودة
اليها ، ولو تكلمت الشجرة لأبكت القلوب القاسية ، حنينا واشتياقا على من
كان سببا في وجودها في هذا المكان الخلاب '.
ويضيف
سائد لـ(أمد):' نعاني كثيرا من الاحتلال بلا شك ويكفي أن يحملك هويته ،
ويرفع علمه فوق مدارسك او يغير عناوين شوارعك لما يحب ويرضى ، ويكفي أنه
يعاملك من الدرجة الثالثة بالانسانية وأنت صاحب الارض وجذور أشجارها وأنت
روحها وبديع صناعتها ، وأنت من تصدقك طيورها وتكّذب ناره الخبيثة التي
حصدت مئات العائلات في هذه المنطقة ومسح عن وجه الأرض عشرات القرى التي
كانت ذات يوم ذركشة بديعة تحت سفوح الجبال او على رؤوسها ، لا بد من
الاعتراف أننا مازلنا تحت الاحتلال لنقول لأهلنا أننا ننتظركم او من تبقى
من بعدكم وبعدنا ليرتاح موج البحر من تعب السؤال عنكم '
تمارا
التي رافقت مراسلة (أمد) في الرحلة وهي من سكان القدس تقول :' لم اتخيل أن
هذه البلاد من فلسطين ، فصورة القتل والدم والندب والاحزان على مرار
السنوات الستين الماضية ، كادت أن تمسح من ذاكرتنا جماليات الامكنة ، او
أنستنا فعلا متعة الاستمتاع بما خلقه الله من ابداع في ارض فلسطينية مثل
رأس الناقورة ، لم أكن اتصور كل هذا الجمال موجود في هذه المنطقة ، نعم
يحق لشعبنا المظلوم أن يتشبث بوطنه وأن يناضل من أجل استرجاعه ، وأن يضحي
بالنفس والنفيس على عتباته ، وأن يعطي خلفاءه مفاتيح البلاد ليعيشوا
ويتمتعوا بما خلق من أجلهم في وطنهم ، فالمحتل يبقى محتلا ولو استوطن
بالقوة ارضنا مئات السنين ، ومصيره الى زوال ، الباقي أصحاب الحق وأهل
الدار ، لذا اقول لسكان هذه المنطقة الرائعة ، اثبتوا وأعيدو اسماء من
هاجروا منكم الى الشتات وأطلقوها على ابنائكم الجدد وسموا الشوارع بأسماء
اجدادكم حتى ولو اضهدكم العدو وكتب بالعبرية اسماءه ، علموا اطفالكم أن
رأس الناقورة رأس الوطن ونهاية جسده رفح وأن قلبه القدس ويداه رام الله
والخليل ، علموهم أن يكبروا على حب من لهم ، وأن شتتهم رياح الغدر في
المنافي وأن الموانيء تنتظر سفن العودة ، هذه البلاد بلادنا يا أهل الشمال
الفلسطيني ولكم منا أن لا ننساكم '.
ادمعت تمارا واختفت عيناها في منديل شرب من ماء العين حتى ارتوى ..
و(أمد)
رصد الحال في رأس الناقورة التي تطل على حدود لبنان وما يظهر منه ابراج
عالية سئل عنها أحد السكان المحليين فقال أنها ابراج رصد لحزب الله
اللبناني ، وفي البحر وبصورة دائمة تجد البوارج الاسرائيلية مستنفرة ،
وعلى حدود المستوطنات المبنية فوق القرى العربية ، تجد دوريات متواصلة
لجيش الاحتلال ، كما أن طرقا خاصة لهم لا يسلكها عربي وأن كان عضو كنيست ،
والدبابات المرصوصة توحي الى أن الحرب ستنطلق بعد لحظات ، رغم كل جمال
المنطقة وروعة مناظرها إلا أن إفساد المحتل فيها ينشر القلق الدائم ويرعب
السكان المحليين بمناورات وهمية وتدريبات جيشه التي لا تهدأ .