طَفَح الصحافة
بقلم: جودت مناع
منذ أن بدأ موقع ويكيليكس بنشر مئات الوثائق السرية للدبلوماسية الأمريكية حول العالم، طفحت وسائل الإعلام بمعلومات ظلت خفية عن جمهور يتجاوز حدود الدولة الواحدة.
لا أريد التطرق إلى طبيعة المعلومات التي ينقلها الموقع من حين لآخر لأن قيمتها تتطلب أكثر من مساحة مقال صحفي لتحليلها أو إرسائها على حجج وبراهين مقنعة للرأي العام بل أفضل الكتابة عن إرهاصات استراتيجيه الدبلوماسية والإعلام الأمريكي.
وبما أن القصة في بدايتها، فإن تداعياتها قد تطال مؤسسات أمريكية أخرى لا سيما المؤسسات الإعلامية الكبيرة التي تتفق دون جدل مع الخط السياسي للإدارة الأمريكية خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي والقضايا الدولية ومنها قضية الوطنيين الفلسطينيين.
لقد أظهرت طريقة الموقع للكشف عن التسريبات طابعا لعولمة إعلامية غير مسبوقة بعد اتضاح رقعة الاهتمام العالمي بما ينشره ويكيليكس فالوثائق تتصل بطبيعة العلاقات الأمريكية مع العالم أجمع وإدارتها للصراعات الدولية.
كما وأن ضربة ويكيليكس طالت ليس فقط استراتيجيه الإعلام الأمريكية فحسب وإنما الدبلوماسية أيضا إذ مزق ثياب الدبلوماسية وتركها عارية عوراء.
عام 1990 زرت الولايات المتحدة وحظيت بزيارة وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن حيث اطلعت على منشورات المركز الصحفي وقد ذهلت آنذاك بطريقة توزيع الأخبار والتقارير وتصنيفها جاهزة في أقسام للقارات الخمس ومفردة لجميع دول العالم مما يوفر للصحفيين مادة إخبارية جاهزة لكنها غير متوازنة بسبب مضمونها الذي يعبر عن وجهة النظر الرسمية للإدارة الأمريكية.
بعض الصحفيين اكتفوا بنشر تلك المعلومات دون الرجوع لمصادر إخبارية من شأنها أن تعزز قيمة المعلومات وبالتالي عدالة الإعلام.
تلك الإستراتيجية تبين مدى حرص الإدارة الأمريكية على تسويق سياستها والانفراد برأيها استنادا إلى نشاط استخباراتي واسع النطاق داخل البلاد وخارجها لتحقيق مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها من المصالح.
وفي هذه المرة فإن دور الإعلام كان السحر الذي انقلب على ساحره وبذلك استعاد الإعلام زمام المبادرة من أقوى سلطة إعلامية في العالم بالنظر لاستخداماته السيئة في إدارة السحر مما أحدث هزة قوية في الولايات المتحدة التي لم تلبث ترميم تداعياتها بعد.
لذلك اتسم رد الفعل الأمريكي بقوة دعائية كبيرة من شأنها أن تطرح تساؤلات حول مدى قدرة الإدارة الحالية على احترام حرية الإعلام وفقا لما نص عليه لدستور الأمريكي لا سيما وأن القضية شاعت داخل أمريكا ذاتها على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون وأثير أمريكي هذه المرة وإن كان نقلا عن موقع ويكيليكس.
كما أن شمول استراتيجيه الولايات المتحدة إخفاء المعلومات عن الجمهور هي ذاتها تناقض نصوص الدستور الأمريكي الذي نص صراحة على حرية تداول المعلومات وعدالته وعليه فإن محاولة إلصاق التهم بمؤسس الموقع ما هي إلا دلالة إضافية على أن حرية الصحافة باتت قاب قوسين أو أدنى قيد السلطات كما كانت حالة الإعلام وفقا لنظرياته الأولى.
التحكم الأميركي في صياغة المضمون تجاوز كل الحدود ففي إدارة الإعلام خلال الحرب يتخذ الجنرالات الأميركيين إجراءات تحدد التعامل مع وسائل إعلام بعينها ومنع أخرى من التغطية من ناحية وطبيعة الرسالة الإعلامية من ناحية أخرى وتتخذ إجراءات تحول دون تجاوز الخطوط الحمراء بفرض الرقابة وحيازة الموضوعات قبل نشرها وإخضاعها للرقابة.
لقد كانت مثل هذه الإجراءات ولا زالت أمرا مقبولا لدى الولايات المتحدة وحلفائها نظرا لأن الحرب تهدف في أولوياتها إلى تحقيق المصالح المشتركة بين الحلفاء في الصراع ضد "أعدائهم" مما يبيح استخدام القوة العسكرية من قبل الطرف المعتدي ضد وسائل الإعلام مثلما قامت به كيان الفصل العنصري في فلسطين المحتلة وأمريكا في العراق الذي سلك الطريق ذاته إبان غزوه الكويت وغير ذلك من الحروب.
لقد أظهرت قضية نشر الوثائق هذه حدة العلاقة بين السياسة ووسائل الإعلام وزادت من الفجوة بينهما بالرغم من السمة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع القائمين على موقع وكيليكس بتوجيهها اتهامات شخصية ضد مؤسسه جوليان اسانج.
الوثائق السرية ظلت طي الكتمان وذات طابع خاص بالولايات المتحدة حتى تم نشرها في وسائل الإعلام وبعد ذلك أصبحت جزءا من منظومة العلاقات الدولية التي تتعرض الآن لمراجعة حثيثة بواسطة أحد أذرعها وهو الإعلام وقد تلقي بظلالها على نشأة النظام العالمي الجديد الذي تسهم في تطويره الولايات المتحدة بما يخدم مصالحها في العالم.
إن ويكيليكس حقق اختراقاً فاق بقدراته طائرات الشبح الأمريكية وكان جديرا في القيام بعملية تنقيب عن الحقيقة باختراقه رادارات الدعاية والإقناع الأمريكية وقد زاد من قوة المعلومات سرعة انتشارها على شبكة الانترنت وهو ما يحدد نتيجة المنافسة بين وسائل الإعلام بأنواعها المطبوع والمرئي والمسموع مقابل الصحافة الإلكترونية التي تجاوزت كل الحدود.
إن هذا التراجع في العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطات لا يبشر خيرا وهي تطور ينذر بمرحلة موقعها خارج ساحة المعارك حيث دلت الحاجة بإلحاح للبحث مجددا في نظريات الإعلام بعد احتلال عدد من الدول وتعرض وسائل الإعلام والعاملون فيها لضربات عسكرية وهو ما يثبت تجاوز نظرية الحرية التي تتغنى بها أمريكا وتحولها إلى نظرية احتلال على نحو أقسى من النظرية السلطوية.
إن علاقة الجمهور ببعض وسائل الإعلام قد فقدت الثقة المتبادلة تماماً ولعل واقعة ويكيليكس تعيد شيئا من هذه الثقة إلى الجمهور العريض مجددا بعد أن طفحت عين الصحافة بمعلومات فاضحة تظهر خفة الولايات المتحدة وبعض حلفائها بالعلاقات الدولية واهتماماتها الإنسانية لا سيما منها القضية الفلسطينية التي ظهر بأن أسلوب التعامل معها قد وصل إلى درجة الانحطاط وهو ما يستحق وصفه بانتصار ثورة المعلومات وضرورة الوقوف إلى جانب الإعلام الحر.
_________________
تحياتي:
العقول الكبيرة تبحث عن الأفكار..
والعقول المتفتحة تناقش الأحداث..
والعقول الصغيرة تتطفل على شؤون الناس..
مدونة /http://walisala7.wordpress.com/